موازين القوى ولكن عمق الأشياء ظلّ على حاله ومازال البون متسعا بين اهتمامات الحكام ومشاكل البلاد الفعلية حتى لو بدت شعبية الحكام الجدد (الحاكم الجديد) في أعلى مستوياتها ..
ماهي أهم مشكلة خلال هذا العقد الأخير، بل خلال هذين العقدين الأخيرين؟
المشكلة الأولى دون منازع هي ضعف النمو ثم تعطله وعدم قدرة اقتصادنا على الارتقاء في سلم القيم ممّا انجرّت عنه بطالة مرتفعة لدى أصحاب الشهادات العليا ثم تفاقم البطالة في كل الفئات واللجوء ،منذ عقدين على الأقل، إلى التشغيل الهش ثم إلى التشغيل الوهمي وتراجعت موارد الدولة الجبائية وتعمقت مديونيتها واختلت توازناتها المالية فتراجعت قيمة الدينار بشكل لافت وتراجعت معه القدرة الشرائية لفئات عديدة في المجتمع كما تراجع قبل ذلك الاستثمار والادخار أي خلق المؤسسات وخلق مواطن الشغل ..
مشكلتنا في كلمة واحدة هي عجزنا عن خلق نمو ذي قيمة إضافية مرتفعة جدّا وهذا ما جعل جلّ شبابنا –وحتى كهولها– يحلمون بالهجرة ومغادرة البلاد.
في المقابل ماهي مشاكل الحكام بعد الثورة وحتى قبلها بسنوات عديدة وقبل 25 جويلية وبعدها كذلك؟ مشكلة الحكام الأساسية هي في البقاء في الحكم وفي توسيع مجال نفوذهم وفي العمل على إقصاء خصومهم وخلق الشروط الدستورية والقانونية والزبونية لديمومة عهدهم.
لم يرد بن علي الاكتفاء بـ17 سنة من الحكم (من 1987 إلى 2004) بل أراد أن يضيف إليها عقدا آخر لم يتمكن من استكماله،وأرادت النهضة نظاما برلمانيا مغلقا يسمح لها بالتواجد دوما في الحكم مع الممثل الأبرز لـ«العائلة الوسطية / العلمانية / المعتدلة» من المؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل إلى قلب تونس مرورا بنداء تونس، والآن يريد الرئيس قيس سعيد والدوائر المقربة منه إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي بدستور سيكون على مقاس رئاسته ويسمح لحكمه بالتمدد والدوام ..
أنه منطق الحكم القديم ومنطلق الغواية البشرية «يا ادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى».
أنصار الرئيس المتحمسون إلى تعليق الدستور وحل المؤسسات .. يقولون أن دستور 2014 لم يمنع الفقر واستشراء الفساد والمحسوبية، وهذا صحيح لكنه حجة سفسطائية لان الدستور، أي دستور، لا يضمن الازدهار ولا الشفافية إذا لم تعضده دولة قوية وقضاء عادل واقتصاد منيع وقوي .. فالإشكال لا يكمن في الدستور أو في حكم هذا أو ذاك بل في الإرادة الجماعية على الإقلاع والعمل والتضحية ..
النهوض بالاقتصاد وتحقيق نسب نمو مرتفعة ومدمجة يحتاج دون شك إلى إصلاحات هيكلية،ولكن لا علاقة لكلها بنص الدستور بل بمناخ الاستثمار وبتحرير الاقتصاد من القيود البيروقراطية المكبلة له وبضمان المنافسة النزيهة وبتطوير البحث العلمي خاصة في المجالات التطبيقية وبدولة مخططة لديها رؤية استباقية لمحيطها الإقليمي والدولي تستثمر في الذكاء وتضخه ضخا في التربية والتعليم والتكوين والإدارة والمؤسسة الاقتصادية وتوفر شروط الانسانية المجتمعية حتى لا تكون الثروة حكرا على بعض الجهات والفئات والعائلات.
النهوض الفعلي بالبلاد يتطلب تجنيد كافة طاقاتها وخلق مشروع جماعي يعيد الأمل إلى كل بناتها وأبنائها في ظل حوكمة تشاركية نزيهة ورشيدة ووطنية.. وهذا المسار الطويل لا يرتبط بحزب أو فكرة أو شخص، ومن يعتقد عكس ذلك ويعمل على التقسيم بدل التجميع والانفراد بالرأي والحكم بدل التشاركية الفعلية والتعددية الحقيقية سيدفعنا إلى مفاقمة أزماتنا المعقدة وإهدار فرصة أخرى سوف لن نجد حتى مآقينا للبكاء عليها.