وتحركه كيفما شاء صاحب القصة. فان الرئيس قيس سعيد دون منازع «افضل» من يصوغ القصص في المشهد التونسي.
ففي لقائه بممثلين عن رابطة حقوق الانسان وعمادة المحاميين على خلفية الاعتداءات التي مارستها قوات الامن ضد المتظاهرين، لم يكتف قيس سعيد بان يحتوي الازمة وان يبرز انتماءه للثورة واحترامه للحقوق والحريات وعلى راسها حرية التعبير. بل ان الرجل تمكن من أن يجعل من الازمة فرصة جديدة له.
فأمام عميد المحامين ورئيس رابطة حقوق الانسان التونسية ونائبه، اعلن الرئيس بشكل صريح ان حربه على الفساد والفاسدين لا مكان فيها للحياد. إما مع الرئيس او ضده في هذه الحرب التي جعلها بمثابة حرب مقدسة تستوجب ان يقع غض البصر عن بعض «التجاوزات» او التضيقات على الحريات ومنها حرية التنقل.
فالرئيس وهو يعدد على مسامع ضيوفه مكاسب وثروات محام ونائب في مجلس النواب المجمد حرص على ان يبرز حجم هذه الثروة وضخامتها وان يشدد على انها جمعت بطرق غير قانونية بل بممارسات مخلة من بينها بيع الجنسية التونسية بـ100 الف دينار او كما قال « 100 مليون». ثروة قال الرئيس ان مصدرها الفساد والتلاعب بثروة التونسيين واموالهم بعد ان تحالف من جمعوا الثروة مع شبكات الفساد التي «نكلت» بالشعب وتلاعبت بقوته وبمستقبله.
هنا وبشكل صريح قدم الرئيس قصة محكمة الحبكة، تقوم اساسا على انه حتى وان صدر عنه خطأ- باعتباره اليوم يمثل السلطة والدولة وان وقع خطأ هو من يتحمل مسؤليته السياسية- فان هذا الخطأ ليس بقصد تأسيس الاستبداد او الدكتاتورية بل هو «ضرورة» لتتمكن تونس وشعبها من محاسبة الفاسدين.
وهذا ما عبر عنه بشكل صريح بقوله ان قرارات الاقامة الجبرية الصادرة في حق عدد من التونسيين هي اجراء احترازي ضدهم الى حين تقديمهم إلى القضاء لمحاكمتهم على الجرائم التي مارسوها ضد التونسيين.
ولم يغفل هنا الرئيس عن احكام سرديته وتعزيزها بعناصر تبرز حجم الرخاء والثراء الذي يعش فيه بعض الفاسدين وبين المعاناة اليومية للتونسين، ولم يغفل عن نزع كل غطاء عن الفاعليين السياسين والحقوقيين حين جمعهم كلهم في سلة واحدة وجعلهم امام خيارين، إما مع الحرب على الفساد وان وقعت فيها بعض التجاوزات او أنهم مع الفاسدين.
هذا بعد ان هيأ الرئيس الشارع وأنصاره طوال الايام الفارطة وفي كلمته امام ضيوفه الخميس الفارط، وجعلهم يستشيطون غضبا وحنقا ليس فقط على من ثبتت عليه شبهة فساد بل على كل من تطاله شبهة فساد وان كانت ضعيفة بلا حجج او براهين وكل من تطارده اقاويل واشاعات بانه حقق ثروة على حساب التونسيين ويضاف لهؤلاء اي شخص او مجموعة تنادي بالتعقل وبمحاكمة عادلة وباحترام الاجراءات والقانون في علاقة بحقوق المتهمين.
كل هؤلاء هم متهمون في نظر جزء من الشارع التونسي الذي بات يطالب بالقصاص لا العدالة وانطلق في محاكمة شعبية علنية كل ما تمتلكه هي تهم لم يقع اثباتها او شبهات لم يقع التحقق منها، ولكنها باتت الحقيقة بعد ان نطق بها الرئيس.
حقيقة قدمها الرئيس للتونسيين، وبها يريد ان يعيد ترتيب الموازين وفرض امر جديد، فهو لم يستنجد بالشارع من اجل ان يحاكم الفاسدين او يشحنه ضدهم بل هو لجأ اليه ليكون ورقته القوية في الضغط على الجميع، وهذا يشمل القضاء الذي بات اليوم تحت ضغط رهيب.
فالقضاة اليوم قد يجدون انفسهم امام خيارين اما الانطلاق من قاعدة المتهم بريء الى ان تثبت ادانته وان يحاكم بما توفر من براهين ودلائل او ان يقع اعتبار من يحال على انظارهم «مذنبا» وان لم تثبت عليه التهم، طالما ان الشارع والرئيس اصدروا احكامهم.
هذا ما قدم في لقاء رئيس الجمهورية بعمادة المحامين والرابطة. اذ فرض على الجميع ان يختاروا بين ان يكونوا اما معه او ضده، بما يعنيه ذالك ان الرئيس لم يعد يمثل نفسه بل يمثل الشعب ومصالحه.
امام هذه السردية والقصة لا مكان للاختلاف او مجال للقول بأن الحرب على الفساد لا تشرع للانتهاكات ولا تبرر تحريض الشارع على التصادم او تحركه ضد جزء من التونسيين. فان اصيب الشارع «بهيجان» يصبح من الخطر محاولة عقلنته او دعوته للتريث، والخطر يتضاعف حينما يصدر عن الرئيس حكم بات بأن المتهمين «مذنبون».
تونس وطوال السنوات العشر السابقة عانت من مثل هذه المقاربات التي يقع اللجوء إليها لتبرير ما يحدث وتغفل عن ان الانحرافات لا تتوقف، وان الصمت امامها يؤدي في النهاية الى وقوع الجميع في المحظور. واول المحظور ان تسقطة العدالة ويحل محلها القصاص.