وذلك «إلى غاية اشعار آخر» بما يفيد شبه حلّ البرلمان الحالي واستحالة عودته بأي شكل من الأشكال ولئن كان هذا متوقعا إلى حدّ كبير قبل البلاغ الرئاسي إلا أن الجديد أن هذه التدابير الاستثنائية لم تعد مسقفة زمنيا بل ستستمر لفترة قد تطول (عدّة أشهر على الأقل) وأن الخروج منها لن يتم قبل الاستفتاء على دستور جديد وإجراء انتخابات عامة على أساسه.. ويبقى بالطبع السؤال قائما حول الجهة أو اللجنة التي سيعهد إليها إعداد هذا الدستور وهل ستكون تعددية في تركيبتها أم أنها ستعكس فقط تصور رئيس الدولة لهيكلة السلطة السياسية ولطبيعة العقد المشترك بينها وبين سائر المواطنين،وهل ستحظى بمناقشة عامة أم أن ذلك سيقتصر على الفترة المحدودة (أسبوعان أو ثلاثة) للحملة الانتخابية/التفسيرية التي ستسبق مباشرة الاستفتاء ..
لكن وفي الأثناء مرّ شهر كامل ظلت فيها البلاد دون حكومة مكتملة البناء محددة الصلاحيات ودون تعيين رئيس الفريق ودون عرض أي برنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي للأشهر القادمة.
يقول رئيس الجمهورية ويكرر أن الأساسي يكمن في استمرارية الدولة لا في تشكيل حكومة بعينها هي بالضرورة آيلة إلى زوال ككل سابقاتها ولكن هل يمكن الحديث فعلا عن استمرارية الدولة في ظل غياب حكومة فعلية وذلك أيا كان النظام السياسي الذي يضبط فعليا تنظيم السلط العمومية في هذه «الحالة الاستثنائية»؟!
المعلوم أن النص القانوني الاهم الذي تصدره كل حكومة هو ميزانية الدولة،فهي التي تتضمن السياسات العمومية الفعلية والأولويات الاقتصادية والاجتماعية لكل حكومة.. وهذه الوثيقة (الميزانية) ليست مجرد نص محاسبي يضبط موارد الدولة وأبواب إنفاقها بل نرى فيه تصورها للتوازنات المالية الكبرى ولسياستها الجبائية ولنوعية تدخلها في الحركة الاقتصادية إما عبر الاستثمار العمومي أو عبر تحفيز الاستثمار الخاص وتوجيهه نحو القطاعات التي تعتبرها حكومةما ذات أولوية بالنسبة إليها.
لو كانت للبلاد موارد طبيعية ضخمة لهان الأمر ولكننا نعلم جميعا الصعوبات الجمة للمالية العمومية وحاجتنا لاقتراض حوالي ثلث الميزانية هذه السنة والتي تليها على الأقل وهذا يستوجب إستراتيجية واضحة وحازمة للحد من هذا التداين الجنوني وكذلك حشد ما يكفي من الأموال ونعلم جميعا أن هذا لن يكون ممكنا دون اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي ودون توافق داخلي واسع مع الشركاء الاجتماعيين. وهذا كله وغيره أيضا من المشمولات الحصرية لرئيس الحكومة أو للوزير الأول أو للمكلف بتسيير الحكومة ولا يمكن أن يعهد لوزراء متفرقين جلهم سيدعى الى المغادرة دون شك ..
كل يوم تتأخر فيه تونس عن تكوين حكومة سيكون مكلفا للغاية وسيضع صاحب(ة) القصبة الجديد(ة) في وضعية حرجة أمام مطالب متناقضة يعسر التوفيق بينها .
يبدو أن «الخبرة» لا تعني شيئا يذكر بالنسبة لرئيس الدولة إذ أن الأساسي عنده هو النهج السياسي السائر على هداه ..ولكن هل يكفي الولاء السياسي لحسن تسيير ملفات بمثل هذا التعقيد ؟ وهل يكفي الولاء السياسي لإخراج البلاد من أزمة مالية واقتصادية واجتماعية خانقة ؟ أم أننا نعوّل على «سخاء» الدول الصديقة وخاصة «الشقيقة» ؟
لا يناقش أحد في شعبية قيس سعيد ولا في صدق نواياه لإنقاذ البلاد، ولكن الدول العصرية – بما في ذلك تونس – لا تساس كما كان الحال زمن عمر بن الخطاب ،وحتى هذا الأخير فقد استعان بذوي الخبرة في عصره ووضع الدواوين (دفاتر لصرف منح وفق ما سبق في الإسلام ) وعيّن ولاة لهم كفاءة التسيير ووضع سياسات عمومية لم يعهدها الصحابة كرفضه التفريط في أراضي السواد (الأراضي الزراعية الواقعة بين نهري دجلة والفرات ) للفاتحين ..
تسيير دولة عصرية يقتضي الإلمام الدقيق بتوازناتها الاقتصادية والاجتماعية وبالقدرة على التحكيم بين المصالح المتناقضة،وهذه الخصال تتأكد اليوم أكثر من أي وقت مضى لان حكومة الرئيس لن تكون مسؤولة لا أمام البرلمان ولا حتى بصفة جدية أمام الرأي العام،وضعف هذه المعارضات قد يغري بالذهاب إلى مغامرات غير محسوبة العواقب ..
لقد لفظ التونسيون حكومات المحاصصات بكل أصنافها ولا نخال أن الحل هو في حكومة الولاء غير المشروط..
التعدد والتنوع حتى داخل العائلة الفكرية الواحدة شرط ضروري للتوقي من الأخطاء المدمرة أما «السمع والطاعة» فقد أديا إلى انهيار كامل المنظومات السابقة.