وقد ظلت معضلة السياسة الاتصالية للرئيس منذ تقلده لمنصبه اثر انتخابات 2019، قائمة وبرزت اكثر بعد 25 من جويلية، ذلك أننا انتقلنا من مشهد سياسي فيه عدة فاعليين اساسيين الى مشهد سياسي يمسك سعيد بكل مقاليده وأوراقه، مما ابرز اكثر هذه السياسة التي تقوم على الخطابة اساسا.
فقد ظل الرئيس وفيا لنهجه الاتصالي القائم على الترميز والخطابة، دون البحث عن أدوات او آليات تسمح للصحافة في الحصول على المعلومة ونقلها اثر معالجتها الى الجمهور، اذ ان رئيس الجمهورية حافظ على خيار الربط المباشر بالجمهور دون اللجوء الى وسيط.
فالرئيس يعتمد سياسة اتصالية تقوم على أساليب وطرق تلغى الوسائط بينه وبين التونسيين مما يمكنه من ان يكون المتحكم في عملية صياغة الصورة الذهنية التي يرغب في ان يقدمها للجمهور أي للتونسيين. ويغفل هنا عن ان رئيس الجمهورية خاصة بعد 25 من جويلية هو الفاعل السياسي الأساسي في البلاد، وان خياره الاتصالي الراهن لين يحول دون حقيقة ان ما يقوم به وما لا يقوم خاضع للتفسير وللتأويل.
أي ان اعتقاده بان الاستغناء عن الصحافة والإعلام كوسطاء بينه وبين الجمهور يمكنه من التواصل المباشر مع التونسيين ويمكنه من صياغة الصورة الذهنية وتبليغ الرسائل السياسية التي يرغب في تبليغها والالتزام بالصمت وفي افضل الاحوال الرد بشكل غير مباشر عبر «خطب» هو ما سيمكنه من تنزيل سياسية اتصالية ناجحة تعبر عن فكره وخياره السياسي.
هنا لابد من الاشارة الى إن كل فعل وكلمة بل والصمت والسكون الصادرين عن رئيس الجمهورية هي «مضامين اتصالية» قابلة للتأويل. وهذا يقودنا الى المضمون الاساسي الذي يرغب الرئيس في ان يبلغه للتونسيين، وهو انه «رئيس الشعب» المتحرر من النخب و الاحزاب والشبكات/ اللوبيات.
لكن هذا الخيار الاتصالي بلغ حده الاقصى وبات غير قادر على إفادة الرئيس الذي يدرك ان «الترميز» و«الغموض» والصمت لن تتقدم به في بقية مساره خاصة وانه بات اللاعب الوحيد في المشهد ومحل انظار الجمهور المتعطش للفهم وللمعلومة.
هنا تبرز الحاجة الاكيدة لتغيير السياسية الاتصالية للرئاسة والرئيس، والقطع مع خيار البلاغات الصحفية ونشر تسجيلات مصورة للرئيس يخطب فيها على مسامع من يلتقي بهم، والاعتماد على سياسية اتصالية اكثر انفتاحا تسمح بتوفير اكبر قدر من المعلومة للمواطن.
أي ان تنهى الرئاسة القطيعة بينها وبين الاعلام التونسي وان تدرك ان وظيفة الصحافة هي مراقبة من هم في السلطة ومساءلتهم لإنارة الجمهور وتمكينه من المعطيات الضرورية، وايضا عليها ان تراجع مفاهيمها عن الاتصال والاهم مفهومها المتعلق بالاعلام العمومي، وان تتقبل ان تكون تحت المجهر وان ينتقد الرئيس وتسائله عما يفعله.
لذلك بدون هذه الخطوة ، أي انهاء القطيعة ، ستعيش البلاد على وقع سياسية اتصالية احادية الجانب تقوم على «نقل سردية» وإحاطتها بهالة من القداسية تجعل صاحبها فوق المساءلة والمحاسبة يقابلها الاف الاخبار الكاذبة والمضللة التي تربك المشهد وتجعله ضبابيا.