يجد هذا السؤال ما يبرّره في التاريخ. فكلّما تغيّر السياق السياسي وانقلبت موازين القوى السياسية وبرز فاعلون جدد يحملون تصوّرات مغايرة انعكس ذلك على «القضايا النسائية» والسياسات التي تتبناها الدولة بخصوص أوضاع النساء. يكفي أن نذكّر بدفاع الزعيم بورقيبة عن غطاء شعر المرأة واعتباره رمزا للهويّة في مقابل إرادة المستعمر الفرنسي تشكيل هويّة جديدة للنساء المسلمات ثمّ إلحاحه بعد تأسيس الدولة الوطنية، على أن يكون خلع غطاء الرأس عنوان المشروع التحديثي وتحرّر التونسيات. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى باكستان والجزائر وإيران وتركيا وغيرها من البلدان.
وإذا عدنا إلى مواقف الرئيس «سعيّد» من حقوق التونسيات بدت النزعة المحافظة والبطريكية واضحة من خلال تنزيل القراءة التأويلية للمطالب النسوية في إطار ترتيب الأولويات (القضاء على الفقر والجوع...) ومبدإ السيادة الوطنية إذ أكدّ في تصريحاته أنّ الاتحاد الأوروبي هو الذي فرض مجموعة من التعديلات في قانون الأحوال الشخصية منذ 2016، وأنّ الشعب لم يطالب بذلك، واعتبر «سعيّد» في لقائه يوم الخميس 13 أوت 2020 بعاملات فلاحيات ببوسالم (ولاية جندوبة) أنّه يرفض مبادرة المساواة في الإرث مستندا في ذلك إلى المرجعيّة الدينية وضاربا القيم الواردة في القانون والدستور والمرجعية الحقوقية الكونية عرض الحائط، وكرّر «سعيّد» عرض موقفه من المساواة في الكلمة التي ألقاها أمام مجموعة من النساء في احتفال 13 أوت الفارط بالقصر إذ رأى أن المساواة الحقيقية بين المرأة والرجل يجب أن تكون أوّلا في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أمّا المساواة في الإرث فهي ليست سوى مساواة شكليّة، وقضايا مفتعلة لتقسيم التونسيين..
لاشكّ عندنا أنّ تصميم «الأب/المعلّم» على احتكار تأويل النصوص الدينية وقراءتها بطريقة حَرفية يقيم الدليل على عدم اكتراثه بالاجتهادات الجديدة التي أنجزها عدد من الرجال، وبالقراءات المتعدّدة للدارسات المتخصصات في الفكر الإسلاميّ وللنساء المنضويات تحت «النسوية الإسلامية» بل إنّ «سعيّد» يرى أنّ من حقّه كممثّل للدولة، ترتيب المطالب النسوية،
وهو أمر يوضّح آليات اشتغال البطريكية القائمة على ممارسة القوامة وضرب الوصاية على النساء حتى في مستوى التفكير في حقوقهنّ . بل إنّ انتزاع مطلب المساواة في الإرث من السياق الاقتصادي الاجتماعي وإفراغه من محتواه الشمولي هو تصرّف في تاريخ النضال النسويّ وإيهام التونسيين بأنّ المسألة لا تخدم الفئات المقهورة ولا تعدو إلا أن تكون «زوبعة في فنجان» .ولعلّ الأخطر من كلّ ذلك إيهام «الرئيس» الجموع باصطفافه إلى جانب الكادحات وسعيه إلى إنصافهنّ.
وليس الفرز بين التونسيات، في اعتقادنا، إلاّ محاولة لإعادة الترتيب على أسس جديدة خارج السياق «المعتاد» وإقامة الجدران العازلة بين النسويات المشتغلات على ملفّ التمييز وتعديل التشريعات حتى تتلاءم مع روح الدستور وصولا إلى إقرار المساواة في كافة المجالات، وبين شرائح أخرى من التونسيات لا همّ لها، في نظره، سوى تحصيل القوت وتحسين ظروف العمل وإقامة العدل وترسيخ الكرامة. ولكن ماذا لو اطلع الرئيس على البحوث الميدانية التي اجريت في الأرياف والقرى وفي الحقول حيث تشتغل الكادحات الحالمات بتغيير أوضاعهنّ وبتحقق المساواة التامة في كلّ القطاعات والمجالات بما فيها المساواة في الإرث.؟ وماذا لو أصغى الرئيس إلى خطاب العاملات الفلاحيات وغيرهنّ من النساء «العاديات» حول العنف الاقتصادي والعنف المادي والعنف الأسري وتمثّلهنّ لذواتهن ورؤيتهن لعلاقتهن بالأزواج والأبناء وأرباب العمل؟ إنّها خطابات تقوّض الصور النمطية وتنمح الصوت لفئة يعتقد البعض أنّ من حقّهم/نّ الكلام نيابة عنها.
لا سلّم للأولويات في تصوّر التونسيات على اختلاف مشاربهن وانتماءاتهنّ إذ تتقاطع أشكال القمع بحيث يغدو الفصل بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني مجرّد وهم. وأحسب أنّهنّ على وعي بأنّه كلّما سادت نظريات المؤامرة ونما الخطاب الشعبوي وكثر الحديث عن الآخر /الأجنبيّ/... في علاقته بسياساتنا أصبحت أجساد النساء ميدانا لأعنف أشكال الصراع وتعدّدت الخطابات الراغبة في تشكيل وعيهنّ.
كلّ عيد وأصوات التونسيات عالية وتضامنهنّ فعليّ من أجل تغيير طريقة التعامل معهنّ. فهنّ لسنّ موضوعا أو ملفّا أو ورقة ضغط توظّف لضرب الآخر أو كسب ودّه.. إنّهنّ ذوات فاعلة ومفكّرة ... إنّهنّ مواطنات فهل تعقلون؟