إن ملازمة الحذر لا تسمح بالإفراط في السرعة ،و لكن لا يعني ذلك البطء المفرط في الطريق إلى درجة تعطيل السير العادي و عدم بلوغ المراد.
فالعشرية الماضية شهد فيها التونسيون حالة متردية ما فتئت تتفاقم يوما بعد يوم إلى درجة أن المجلس الذي يجمع تحت قبته كل نواب الشعب ، أصبح غير قادر على تأمين السير العادي للجلسات ،و لعلّه من المفارفات أنه قبل عام ،كان نواب الشعب بصدد التصويت على لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان بعد تجميع العدد الكافي لعرض اللّائحة ،دون أن حيازة الأغلبية الكافية لتحقيق ما أراده معارضو النهضة و أتباعها . رسالة جاءت بعد العديد من الرسائل الأخرى للفت النظر إلى حالة التبرم السّائدة و لكن الماسكون بالسلطة واصلوا السير في الطريق الخطأ إلى أن طفح الكيل .
لذلك سيضع المسار الجديد إذا كانت هناك إرادة حقيقية للتصحيح ، رئاسة الجمهورية أمام مسؤولية كبرى ،لوقف التردّي و مجابهة مقتضيات التغيير و الحاجيات المنتظرة من أوسع الفئات . كل هذا يقتضي أولا ، تشكيل حكومة مستوعبة لمتطلبات المرحلة القادمة ، وقادرة على الفعل الناجع في مختلف المجالات الحساسة ، لضمان الحد الأدنى للإستقرار و إمكانيات العمل و الإستثمار و بدأ الإصلاح . و هو ما يتطلب تحيد الأولويات في المجال الصحي ، بمزيد البحث عن سبل الوقاية والعلاج ضمن منظومة ناجعة لمجابهة الفيروسات المتجدّدة ، ثم تحريك عجلة الإقتصاد ، بالعمل الجاد لا بالشعرات و ذلك بتأمين مواطن الإنتاج و صناعة الثروة بما يتطلب ذلك من صرامة و إرادة صادقة، ثم يأتي بعد ذلك معالجة مختلف المشاكل و الإشكليات المطروحة في حراك 25 جويلية بتبصر و دون تسرّع و في كنف إحترام القانون ، كي تسترجع كل الفئات الثقة في الدولة ومؤسساتها . هذه الثقة الّتي إهتزت و تلاشت و حل محلها التعويل على المحسوبية و المحاباة و الرشوة و الولاءات الحزبية ،بدل إعمال مبدأ المساواة أمام القانون ،و فرض كلمة مؤسسات الدولة على الجميع دون تمييز أو موالاة . و بما أن الشعار الطاغي هذه الأيام هو مقاومة الفساد ،فإنه لا بد من وضع منهجية واضحة للتصدي لهذه الآفة الّتي عمّت كل المجلات و أصبح تمتلك في داخلها قواعد و أعراف تنظمها و يمسكها أصحاب النفوذ . و لا شك أن التصدي لا يعني فقط المحاسبة ، بل يعني أيضا المعالجة و تفعيل الرقابة و توخي السبل المستحدثة في التسيير والتصرف و إسداء الخدمات.
لا شك أنه لا يمكن تصور إصلاح حقيقي دون إصلاح القضاء – الّذي أعتبره أولية الأولويات -و جعله يضطلع بمهامه طبق ما يقتضيه القانون ،و هذا أمر لا بد من تحقيقه ، بحيث لا يكون تحت أي وصاية و في نفس الوقت يجب ألا يكون بلا رقيب ،و هو السبيل لقطع دابر الفساد الّذي ينخره ، و تخليص النزهاء فيه من كل الكوابح وتمكينهم من إعلاء كلمة القانون بلا تردد و لا خوف . ويكون ذلك دون غوغائية أو تشفي و في كنف إحترام أعراض الناس و حرمتهم و إعتبارهم كمشتبه فيهم أو كمتهمين ، حتي يأخذ كل ذي حق حقه بلا تشهير و لا إحتكام للشارع أو خوفا منه .
إن فتح الملفات ، ليس للفرجة أو للإثارة ، أو لإخماد صوت الرافعين لشعار مقاومة الفساد ،و أو لمجاراتهم ،و إنما للبحث والتحري و تطبيق القانون بسرعة و نجاعة لضمان حقوق الجميع ، و بتقبل التشكي و التظلم برصانة و بعد التثبت و التمحيص حتى لا يقع الإنسياق وراء التشفي أو الإنتقام و الوشايات الكاذبة الّتي يجب تتبع من أثارها بلا وجه حق .
هذه الإجراءات السريعة الّتي يمكن أن تضطلع بها السلطة ،يجب ان ترافقها إجراءات سياسية لا تتوقف على السلطة لوحدها ، بل تتطلب التشاور مع كل القوى الحية و المجتمع المدني و والمنظمات الوطنية و النخبة السياسية الصامتة أو التي تمّ إستبعادها بشكل أو بآخر و لو بآلية الإنتخابات . هذا التشاور يهدف إلى النظر في خارطة الطريق الّتي سيقترحها رئيس الجمهورية لإثرائها و تحديد مقتضيات و كيفية إنجازها . خارطة الطريق المنتظرة ،ستحدد مرمى الإصلاحات المطلوبة في كل ما يهم النظام الإنتخابي والتنظيم السياسي و غيرها من المساءل الّتي أوصلت البلاد إلى ما هي فيه . و يكون كل هذا في إطار تفهم جميع الفئات الإجتماعية لما يجب بذله من مجهود لإنقاذ البلاد بعيدا أن تأليب و تجييش الشارع فيما لا يؤدي إلى أي حل ،و في منآى عن لغة التهديد و الوعيد.
لا حل إذن إلا بترك المهاترات جانبا ، و الإنصراف إلى العمل الجاد والمسؤول في أسرع وقت لأن الوقت سيف إذا لم تقطعه قطعك، كما يقال ...