من تداعيات العيش تحت سقف الفصل 80: قوة الدولة وضعف المنظومة الحزبية

لو حاولنا تلخيص هذه العشرية الاولى من عمر الثورة التونسية لقلنا بأنها تميزت بضعف الدولة وهيمنة منظومة الأحزاب على المؤسسات وعلى المشهد العام .

ضعف الدولة تجلى خاصة في تراجع المرافق العمومية وضعف قدرتها التوزيعية ونزولها الى مستوى الحركات الاحتجاجية في التفاوض الاجتماعي وغياب سياسات عمومية مستقرة ومستمرة ..
ورديف ضعف الدولة هو تغول منظومة الاحزاب وسطوتها حتى تحولت الديمقراطية عندنا إلى مجرد تبادل للمنافع والمواقع بين الالات الحزبية الاساسية على امتداد كامل هذه العشرية .
ولكن هذه الصورة الظاهرة لم تكن تعكس كل الحقيقة ولا حتى أجزاءها الأساسية..

ضعف الدولة تعلق أساسا بأدوارها الاجتماعية والاقتصادية لا بجوهر السلطة وما كان يعرفه القدامى بـ«الشوكة»..المفارقة كانت بين قوة الدولة كجهاز امني بالمعنى الواسع للكلمة وضعف الدولة (النسبي دوما) كمُعدِّلٍ اجتماعي وهذا ما اوهمنا بقوة منظومة الأحزاب أي بقدرتها على التحكم الظاهر في توزيع المنافع (او عدم توزيعها) على مختلف فئات المجتمع.
ففي الظاهر كانت لدينا دولة ضعيفة ومنظومة حزبية قوية ولكن في عمق الأشياء وفي جوهرها الدولة التونسية قوية،حتى وإن لم تكن مظاهر قوتها بادية للعيان، والمنظومة الحزبية في جوهرها ضعيفة – ضعيفة من حيث انغراسها الشعبي وضعيفة من حيث قدرتها على تعزيز الإمكانيات التوزيعية للدولة وعلى رسم وتنفيذ السياسات العمومية الدائمة والعميقة.. قوة المنظومة الحزبية عندنا هي قوة المسرحة المشهدية والقدرة على ملء الفضاءات الإعلامية وعلى شغل الناس بصراعاتها وخصوماتها البهلوانية.. ولذلك عندما قررت الدولة بما هي جوهر السلطة إيقاف القوة الظاهرة للمنظومة الحزبية فعلت ذلك في دقائق معدودات وعجزت الأحزاب المتضررة من ذلك (حركة النهضة وحلفاؤها) حتى على مجرد الصمود الرمزي فاستكانت و«جنحت للسلم» وهي الان تتوسل بمواقع القوة الفعلية في العالم المهتم بنا لتخرج من هذه الورطة بأخف الأضرار.

إعلان تفعيل الفصل 80 ورئيس الدولة محاط بقيادات عسكرية وأمنية كبرى وبعد ذلك بسويعات قليلة غلق باب مجلس نواب الشعب أمام رئيسه ونائبته الأولى صورة ساطعة حول حقيقة موازين القوى: الدولة التي تملك كل شيء، والمنظومة الحزبية الفاقدة لكل شيء.
لقد أظهر تفعيل الفصل 80 كذلك الهيئات الوسيطة (les corps intermédiaires) الأساسية خارج المنظومة الحزبية وهي كذلك اقوى وأصلب منها بكثير، فالمنظومة الحزبية مجتمعة لا تكاد تزن شيئا أمام المنظمات الاجتماعية الكبرى والجمعيات المهنية والحقوقية ووسائل الإعلام .. وهذه مفارقة المفارقات فمن كان يحكم البلاد خلال العشرية المنقضية هي اضعف المنظومات وهي التي تهاوت في أول اختبار جدي لها ..

ولكن يخطئ من يعتقد بأن هذه المنظومة على ضعفها غير مفيدة للمجتمع، في المطلق، وذلك لان الدولة كسلطة محض لا يمكنها ان تسوس المجتمع مباشرة الا في حالة تحول السلطة الى تسلط وتحول القوة الأمنية الى قوة قمعية.
سلطة الدولة وقوتها تحتاج الى وساطة الهيئات الوسيطة والمنظومة الحزبية حتى يحصل التوزان بين القوة وبين مقبوليتها المجتمعية حتى لا يُساس المجتمع بالقوة بل تستعمل هذه القوة من قبل من ينتخبهم الشعب (أي الأحزاب في نهاية الأمر) لحسن تنفيذ السياسات العمومية.
نحن نعيش اليوم لحظة خاصة جدا تتجلى فيها الدولة كقوة مطلقة لها شعبية واسعة، ولكن هذه اللحظة مدعوة للتحول، وقوة الدولة من التخفي حتى يحصل القبول الطوعي بها .. ولكن هذا بالطبع يستوجب منظومة حزبية مغايرة تماما لما ساد خلال هذه العشرية وتراجع حركة النهضة أو حتى زوالها لا يحلّ المشكلة ولن يصالح عموم التونسيين مع منظومة لفظوها بجلّ مكوناتها ..

الطريق أمامنا طويلة وعسيرة ولكن مسافة الألف خطوة تبدأ منذ الخطوة الأولى شريطة ألا تكون في الاتجاه الخطإ.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115