تحديات جسام أمام الأمن الجمهوري: الاختراق السياسي والتطبيع مع العنف

بشيء من التأخير صدر بيان عن وزارة الداخلية أدانت فيه تصرفات منظوريها في سيدي حسين كما أكدت أنها تهدف

«إلى إحداث التوازن بين الحفاظ على الأمن العام ومبادئ حقوق الإنسان»..
والأكيد هنا انه لولا وجود مقطع فيديو يبرز بكل وضوح العنف الهمجي والقصد المبيّت بإذلال قاصر وتعريته والحط من كرامته ..لو لا وجود هذا المقطع لتواصل التمسك بالبيان الأول والذي نجد فيه رواية مختلفة تحمّل القاصر الضحية المسؤولية المعنوية لكل ما حصل..
اليوم ننتظر جميعا أن لا يتم الإفلات مجددا من العقاب وأن يتحمل كل طرف شارك في هذا الاعتداء الوحشي المشين أو سعى للتغطية عليه ما يناسب هذه الجرائم المرتكبة في حق أحد شبابنا ومن ورائه البلاد كلّها..
نحن نعلم جيّدا الدور الأساسي الذي تقوم به الوحدات الأمنية للحفاظ على الأمن العام في ظروف صعبة في أحيان كثيرة، ونعلم أيضا حجم التحديات الملقاة على المؤسسة الأمنية في ظل انتقال ديمقراطي هش ومناخ اجتماعي متوتر مع استمرار الخطر الإرهابي الذي يهدد البلاد ولكن كل هذا لا يفسر ولا يبرر استمرار استعمال العنف غير المتلائم أو الحطّ من الكرامة البشرية في العمليات الميدانية وفي مراكز الاحتفاظ خاصة عندما يتعلق الأمر بشباب المناطق الشعبية والذين أصبحوا اليوم يعيشون تحت وطأة الوصم من جهة والخوف من عصا البوليس الغليظة من جهة أخرى.
لا نعتقد أننا هنا أمام سياسة دولة أو خطّة ممنهجة لكسر شوكة الشباب ولكن الملاحظ هو الضعف الفادح لفرض قواعد الأمن الجمهوري على كل حاملي الزي وخاصة على الأعوان الميدانيين وعلى هذا التوازن الذي يتحدث عنه بيان وزارة الداخلية «بين الحفاظ على الأمن العام ومبادئ حقوق الإنسان».
لاشك لدينا أن الثورة التونسية مثلت فرصة لجهاز الأمن لإجراء مراجعات مهمة ولمحاولة بناء علاقة جديدة مع المواطنات والمواطنين ولكن هنالك عقليات وممارسات قديمة بقيت قوية ولم تقاوم بالجهد الكافي وزادها التضامن القطاعي وضعف الدولة وعدم تصميم السلطة السياسية صلابة ومناعة بل وجعل منها ممارسة يومية مقبولة وكأن هذا لعنف المفرط والحاطّ من الكرامة مسألة ضرورية للحفاظ على الأمن العام.
نحن أمام مشكلة تكوين وتأطير لا فقط في مدارس الشرطة بل أساسا في الواقع الميداني وفي العقلية المهيمنة على المؤطرين ذاتهم وعلى التضامن القطاعي الأعمى الذي غذته النقابات الأمنية تحت شعار انصر أخاك ظالما أو مظلوما .
نحن على يقين بأن جلّ الأمنيين قد استنكروا كأفراد هذه الصور البشعة،ولكن لابد من الإقرار بأن الاستنكار الفردي لا يتحول بالدرجة الكافية إلى استنكار جماعي يغير العقليات ويستهجن بقوة كل هذه التجاوزات وهذا ما أدى إلى نوع من التطبيع مع هذا العنف المفرط الذي يهدف إلى الحطّ من الكرامة والمعنويات والحال أن الفصل 23 من الدستور ينص بوضوح «تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم».
لقد أخفقت السلطة السياسية في تنزيل جدي لهذا الفصل على أرض الواقع لأن مختلف أحزاب الحكم بحثت أساسا عن موطئ قدم داخل المؤسسة الأمنية مقابل غض البصر عن كل التجاوزات اليومية بل وحمايتها وحماية مقترفيها ..
الأمن الجمهوري المحايد والفارض للقانون في ظل احترام الحريات وحقوق الإنسان وكرامة المواطنين ليس فقط مطلبا شعبيا وديمقراطيا بل هو ايضا صمام الأمان للمنظومة الأمنية من الاختراق أولا ومن التصادم مع المواطنين ثانيا وهذا لن يتحقق إلا بالتزام القيادات الكبرى والميدانية الأمنية بهذه المبادئ بحذافيرها ومعاقبة كل تجاوز لها وتغيير جذري لبعض العقليات التي مازالت مهيمنة بحكم هذا التطبيع مع العنف .
إننا هنا أمام التحدي الأهم والأبرز للانتقال الديمقراطي والفشل فيه يعني العودة إلى مربع الاستبداد والظلم حتى لو حافظنا على شكلانية الديمقراطية ومسرحها الظاهر.
الأمن الجمهوري لا يُبنى قطعا ضد الأمنيين ولكنه لا يمكن أن يخضع للابتزاز القائم على توفير ظاهري للأمن مقابل الصمت عن التجاوزات.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115