عدد الشهداء المائتين ربعهم من الأطفال علاوة على الإهانات والاعتداءات اليومية على كل فلسطينيي الضفة والقدس وداخل حدود 1948..
ويبدو أن جلّ الكتل في مجلس نواب الشعب ستصادق – أخيرا – على مشروع قانون يجرم التطبيع وقد يكون المنطلق في ذلك المبادرة التشريعية التي تقدم بها نواب من الكتلة الديمقراطية في ديسمبر 2020..
قد تبدو المسألة طبيعية للغاية فتجريم التعامل السياسي والاقتصادي والثقافي والعلمي والرياضي مع كيان محتل سبق له أن اعتدى على أرضنا في حمام الشط مسألة عادية بل ومطلوبة وخاصة أنها تأتي لتأكيد المهجة الرسمية والشعبية لتونس .
ولكن لو تجاوزنا الانطباعية الأولى لتبيّن لنا أننا بصدد الانسياق وراء شعار جميل في الظاهر ولكنه مليء بالألغام في الداخل ..
• أوّل هذه الألغام - ولعله أخطرها على الإطلاق - إعطاء الانطباع بأن لدينا جحافل من المطبعين في تونس وأن نصرتنا للقضية الفلسطينية تقتضي معاقبتهم أولا وقبل كلّ شيء.فتجريم التطبيع،لو حصل،لا يتعلق إلا بالداخل التونسي وسياقاتنا السياسية العدائية قد تجعل منه عنصرا جديدا للفرز الداخلي ولمزيد التخوين المتبادل .
• لو أخذنا تعريف التطبيع كما جاء في المبادرة التشريعية لوجدنا تعميما مغاليا قد يصبح غدا – لو تم تبنيه بهذه الصياغة– كسيف ديمقليس يمكن أن يسلط على أعداد غفيرة من التونسيين في الداخل وفي الخارج ..تعرف المبادرة النيابية مرتكب «جريمة التطبيع مع إسرائيل كل من قام أو شارك أو حاول لارتكاب أحد الأفعال التالية :
• عمليات الاتجار والتعاقد والتعاون والمبادلات والتحويلات بكل أنواعها التجارية والصناعية والحرفية والمهنية والخدمية والثقافية والعلمية بمقابل أو بدونه بصفة عرضية أو متواترة وبشكل مباشر أو عبر واسطة من قبل الأشخاص الطبيعيين والمعنويين المقيمين في الجمهورية التونسية سواء أكانت إقامتهم مؤقتة أو كانت دائمة مع كل الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين لهم علاقة مهما كانت طبيعتها مع مؤسسات إسرائيل الحكومية وغير الحكومية العمومية أو الخاصة»ويضاف إلى ذلك المشاركة «بأي شكل من الأشكال» في كل الأنشطة والفعاليات والتظاهرات التي تقيمها «سلطات إسرائيل» أو تشارك في تنظيمها احدى مؤسسات إسرائيل العمومية أو الخاصة خارج إسرائيل ..
بهذا التعريف الواسع والفضفاض تصبح كل مشاركاتنا في المنتظمات الدولية محل شبهة تطبيع وموجبة بالتالي للتتبع القضائي ..
لاشك لدينا بأن الذي يتعامل مباشرة مع جهة إسرائيلية معلومة اقتصادية كانت أم ثقافية أم علمية أم رياضية إنما أتى سيئا منكرا أخلاقيا قبل كل شيء وهو قد طعن بلاده وقيم الإنسانية في الظهر ولكن التعويم والتعميم وتوسيع المجال إلى درجة أنه يمكن أن يشمل مجالات عديدة في الخارج اقتصادية أو ثقافية أو علمية أو رياضية بتعلة تواجد وفد إسرائيلي أو جهة غير إسرائيلية ولكن لها علاقة ما مع الكيان الصهيوني فذلك سيصبح نوعا من العبث ولا علاقة لع البتة بمناصرة القضية الفلسطينية ..
• إسرائيل دولة عدوة لنا ما من شك في ذلك والتنديد باحتلالها الاستيطاني وسياستها العدوانية العنصرية واجب وطني وانساني يقع على مؤسساتنا الرسمية ونخبنا وعلى كل نشطاء المجتمع المدني والمطلوب هنا أساسا حشد الدعم الدولي لا تحويل الصراع إلى الداخل الوطني ..
• أخشى ما نخشاه أن يكون»تجريم التطبيع» حلا كسولا لبعض النخب،حلاّ يجنبها البحث عن كل صيغ التأثير والتشبيك الدوليين لحشد دعم متزايد للحق الفلسطيني وللتفكير في حملات مقاطعة اقتصادية وتجارية وعلمية وثقافية ورياضية لهذا الكيان المحتل ..
• ينبغي أن ندرك أننا لم نخض بعد كعرب وكتونسيين المعركة الجدية على المستوى الدولي لبيان تهافت المروية الإسرائيلية القائمة على المظلومية وعلى ابتزاز الدول الغربية باسم المحرقة النازية أو بعداء العرب للسّاميّه،مروية، تزعم أن إسرائيل دولة ديمقراطية تمثل القيم الغربية الإنسانية وأنها محاطة بشعوب حقودة وبتنظيمات إرهابية تكره إسرائيل لا لشيء إلا لكونها يهودية ..ولقد هيمنت هذه المروية إلى درجة أن الحديث عن الاحتلال وعن حق شعب محتل في المقاومة وفي الدفاع عن نفسه أصبح كالتغريد خارج السرب، بل أن خطاب الحق هذا لم يعد يجد له أنصارا كثيرين حتى عند النخب العربية المقيمة في الغرب خوفا من الوصم ومن التهميش .
ما لم نربح المعركة القيمية والفكرية وما لم نحشد أجزاء هامة من الرأي العام الدولي إلى جانب الحق الفلسطيني لن نتمكن من حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لفائدة الحق الفلسطيني .. وهذه المعركة الأساسية لا تحتاج إلى خطب رنانة وشعارات حماسية بل إلى جهد دؤوب وتصميم مستمر وإلى تغليب الإنساني المبدئي على كل الاعتبارات الأخرى ..
في اعتقادنا هذه هي البوصلة الصحيحة التي ينبغي أن نقيس بها كل شيء، فإذا كان تجريم التطبيع يخدم هذه الأهداف الإستراتيجية فأهلا وسهلا به وإذا كان المقصود به إرضاء نرجسياتنا الإيديولوجية فلنتريث قليلا فجهنم مبلطة بالنوايا الحسنة كما يقال .