على استبدالها بمنظومة تعبّر عن طموحات التونسيين/ات، وتلبّي حاجتهم إلى العيش الكريم والحريّات والتقدّم ... وقد تجلّى حرص المؤمنين بتغيير الواقع في تأسيس جمعيّات مختلفة وتكثيف برامج التدريب وتنظيم الحملات التوعويّة وممارسة الضغط وغيرها من الأنشطة التي أثبتت رغبة شرائح كبرى من التونسيين في إنجاح مسار التحوّل. ولم تقف النخب مكتوفة الأيدي إذ كان عليها أن تنخرط في مشروع إعادة البناء أو أن تساير «الموجة» أو تستغّل السياق فتتعلّم وتطّلع وتشحن خطاباتها بالمصطلحات والمفاهيم التي تتلاءم مع السياق وتلبّي توقعات الجموع. وفي السياق ذاته كان على الإعلام أن يؤسس هياكل جديدة ويقوم بالتعديل الذاتي، ويسعى إلى اكتساب المهارات المطلوبة. وبعد كلّ هذه الجهود والوقت الذي أهدر والأموال التي صرفت، والمكتسبات التي تحقّقت، إن كان على مستوى الوعي والقوانين، والنشاطيّة (activisme) والأداء ها أنّ الخطاب السائد يعجّ بالأحكام: «فشل مسار التحوّل الديمقراطي» وحدوث «الانسداد السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعي» و«سقوط المنظومة» وحدوث الانحسار...
ولئن احتّل الفاعلون في المجال السياسيّ المركز في خطاب توجيه الإدانة والاتّهام فكانوا المتسبّبين الأساسيين في هذا «الدمار» فإنّ المتأمّل في أسباب عجز المنظومة الجديدة عن التوطّن، من جهة، وأسرار صلابة المنظومة القديمة وقدرتها على الصمود أمام محاولات الهدم، من جهة أخرى لا يسعه إلاّ الإقرار بأنّ المنخرطين في العمل السياسيّ من قيادات حزبيّة وفاعلين/ات ونوّاب/ات لا يمكن أن يكونوا وحدهم المسؤولين عن هذا الوضع ذلك أنّ التفكير وفق ثنائية المركز/الهامش يقيم الدليل على عدم استيعاب مطالب أغلب الذين ساهموا في هذه التحوّلات: هؤلاء الشبّان والشابات الّذين ثاروا على تصوّر قديم يصرّ أصحابه على النظر إلى العلاقة بين السياسيين وغيرهم من الناس على أنّها علاقة «الراعي بالرعيّة» أمّا ما ينتظر من القاعدة أو الهامش فهو الطاعة والامتثال.
ولا نعدم الأمثلة الدّالة على عدم استيعاب القيم التي يتمسّك بها من شاركوا، ولازالوا في محطّات التغيير احتجاجا وممارسة للضغط فإصرار «المشيشي» على أنّ تغيير وجهة نظام التلقيح يعود إلى ضمان استمرايّة الدولة يعيد إلى الأذهان تمثّل الحاكم لنفسه وحاشيته(الوزراء، المستشارون، الولاة، العمد...) على أنّهم الأجدر بحقّ الحياة، وأنّ حياة الشعوب تتوقف على وجودهم. وفي المقابل لا معنى لحياة الآخرين ولا قيمة لبقية التونسيين ولاشكّ أنّ هذا الفهم يفضح عدم الإيمان بجوهر العدالة الاجتماعيّة واستمرار المنظومة التمييزية وتوزيع الناس على أساس تفاضليّ تراعى فيه الطبقة والمهنة والانتماءات الأيديولوجيّة والولاء السياسي ومن ثمّة فنحن إزاء شعب «النهضة» /«المشيشي» المختار.
ونظرا إلى أنّ الفاعلين في المجال السياسيّ لا يمثّلون إلاّ جزءا من المشكلة فإنّ آفاق الإصلاح تتسع لتشمل فاعلين آخرين يمكن التعويل عليهم. فبالرغم من عجز النسيج الجمعياتي عن التحوّل إلى قوّة ضغط لها وزن في المعادلة السياسية وبالرغم من توّقف التمويل الأجنبي وعدم البحث عن بدائل محليّة تلغي التبعيّة، وتشتت الجمعيات بسبب الخلافات الداخلية إلاّ أنّ الخبرة التي تجمّعت لدى الناشطين/ات والوعي الذي تحقّق والمهارات التي اكتسبت تسمح للناشطين/ات بالتحوّل إلى كتلة فاعلة قادرة على تأسيس مجتمع مدنّي صلب قادر على تغيير المعادلة لاسيما إذا تبنّى مطالب المحتجّين/ات.
وبالرغم من عجز القطاع الإعلامي عن تحويل مشروع الإصلاح إلى واقع فعليّ، وبالرغم من مظاهر النكوص والرجوع إلى بيت الطاعة أو بيع الذمم والاستخفاف بالمهنيّة والمبادئ وعدم استيعاب متطلبات المرحلة فإنّ الأصوات المؤمنة بقدرة السلطة الرابعة على تحقيق التغيير المنشود لازالت تدافع عن الأداء المسؤول. نلمس ذلك في مبادرات القطع مع الرداءة، والبحث عن البدائل، وفي اتّخاذ قرار عدم تغطية بعض أنشطة النواب أو المسؤولين الذين لا يحترمون حرية التعبير ويسعون إلى فرض شروطهم، ورفض مناقشة بعض الظواهر...
إنّ الاستمتاع بالوضع السكونيّ وممارسة البكائيات وندب الحظّ والاستمرار في تحميل السياسيين وحدهم مسؤوليّة ما وصلنا إليه ليس إلاّ مواقف دالة على الهروب من تحمّل العبء الملقى على عاتق كلّ مواطن/ة في هذا السياق المفصليّ. ونقدّر أنّ قلب المعادلة من القاعدة إلى الأعلى Down/Top ومواصلة درب المقاومة والنشاطيّة والعمل الجدّي وغيرها من أشكال تجسيد الحضور الإيجابيّ سيقودنا إلى صناعة المستقبل.