تونس وصندوق النقد الدولي: البرنامج والأهداف والإمكانيات

حامت تساؤلات كثيرة حول نوعية الحوار الذي يمكن أن يحصل بين الوفد التونسي وكبار المسؤولين في صندوق النقد الدولي

ثم اكتشفنا فيما بعد أن مع الالتماس الذي تقدمت به تونس هنالك وثيقة أولوية تتضمن تقييم الوضع الاقتصادي والمالي العام للبلاد وحزمة الإصلاحات التي تنوي الانخراط فيها تمهيدا لعقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي قد يمتد لأربع سنوات تطمح فيه تونس إلى الحصول على قرض ممدّد بحوالي أربعة مليار دولار .
تتعلق المحاور الأساسية لهذه الوثيقة بمديونية الدولة وشروط الحدّ منها والتخفيض من كتلة الأجور بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي ومراجعة منظومة الدعم للمواد الأساسية وللمحروقات أيضا ومساهمات الدولة في بعض المؤسسات والبنوك مع إصلاح المؤسسات العمومية والسياسة النقدية ومزيد تحرير الاقتصاد في علاقة بالخارج بالإضافة الى كل هذه الإصلاحات المتعلقة بالحكومة الرشيدة والشفافية وتحسين مناخ الأعمال ..
لا توجد في جلّ هذه المحاور التزامات مرقمة (باستثناء كتلة الأجور وبدرجة اقل مراجعة منظومة الدعم) ولكننا نجد أنفسنا أمام حزمة من الإصلاحات الدقيقة بعضها قد تضمنه البرنامج السابق الذي ربطنا مع صندوق النقد الدولي ولعل العنصر الأساسي هو كل ما يتعلق بالمؤسسات العمومية دون أن يكون هنالك حديث مباشر على خوصصتها جزئيا أو كليا ..
الراجح عندنا أن الوثيقة النهائية للاتفاق الذي سيعقد مع الصندوق لن تختلف في توجهاتها العامة مع هذه المسودة الأولى ولكنها ستضبط التزامات كمية ونوعية أدق ..
لو نظرنا مثلا إلى حزمة الإجراءات التي تنوي الحكومة اتخاذها للحد من كتلة الأجور لوجدنا فيها برامج قديمة جديدة كحركية الموظفين هنا وخاصة بين الإدارات المركزية وإدارات الجماعات المحلية والتقييم الأدق لمجهودات الأعوان وإرساء وظيفة عمومية عليا تستقطب اكبر كفاءات البلاد وجملة من البرامج لتشجيع الموظفين بصفة طوعية لمغادرة الوظيفة العمومية إما عبر آلية التقاعد المبكر أو عطلة بعث مؤسسة أو العمل نصف الوقت أو خوض تجربة في القطاع الخاص مع الإبقاء على الحد الأدنى من الامتيازات وتضيف الوثيقة بعض التشديد في الترقيات الآلية والربط بين الأجر وبين الإنتاجية ونسبتي النمو والتضخم..ولكن الملاحظ أن الوثيقة لم تتحدث مطلقا عن مسألة الانتدابات كما لم تتحدث أيضا عن إصلاح جديد لمنظومة التقاعد.. ولكنها اعتبرت أن جملة هذه الإجراءات يضاف إليها تجميد الأجور في سنة 2020 سوف تمكن من التخفيض من نسبة كتلة الأجور من %17.4 من الناتج سنة 2020 إلى حوالي %15 سنة 2022..والواضح هنا أننا أمام أرقام يستحيل تحقيقها في حيز زمني قصير كهذا خاصة وأن جلّ هذه القرارات سينطلق العمل بها في بداية السنة القادمة ..وهذا التراجع الكبير بين 2020 و2028 يعني أن كتلة الأجور بالدينار القار ستنخفض في حدود %15 خلال سنتين وهذا محال حتى ولو وافق اتحاد الشغل على تجميد الأجور لسنة أو سنتين ..وهذا لن يحصل كذلك إذ سارعت القيادات النقابية بالتأكيد على أن الزيادة في الأجور خط أحمر لن تقبل المركزية النقابية بالتراجع عنه..
الملف الثاني الذي سيسيل حبرا كثيرا هو إصلاح منظومة الدعم في المواد الأساسية وفي المحروقات والتي مفادها توجيه الدعم إلى مستحقيه في المواد الأساسية وكذلك في المحروقات ذات الاستعمال العائلي والرفع التدريجي للدعم مقابل ذلك ..
صحيح أن الخطة الأولية للحكومة حذرة فهي تقترح في مرحلة أولى توجيه الدعم لكل طالبيه بواسطة حوالة بريدية ثم حصر الفئات المستوجبة له واشتراط دخل أقصى في مرحلة ثانية للتمتع بهذا الدعم المالي المباشر ..
بعبارة أوضح ستجد الطبقات الوسطى (انطلاقا من دخل معين للأسرة ) نفسها قد فقدت %5 أو %10 من قدرتها الشرائية دون أي تعويض ..
مسودة برنامج الحكومة تحتوي ودون شك على تصور عقلاني لجملة الإصلاحات التي تعتزم الدولة القيام بها ولكن النقيصة الأساسية هي في عدم مناقشة هذه القضايا بالوضوح الكافي مع شركاء الوطن فنحن نتحدث عن حزمة من الإجراءات سيكون لها تأثير مباشر على القدرة الشرائية لشرائح هامة كما أن «التضحيات» سوف لن تقتصر فقط على ما هو واضح في هذا المشروع بل ستتعداه إلى تأثيرات النتائج المحتلمة لتقاطع كل هذه الإجراءات مرّة واحدة ..
هذا الحوار قد غاب، وما يسمى بحوارات قرطاج بين الحكومة والشركاء الاجتماعيين لم تتناول هذه المسائل بالنقاش بعد..
نحن هنا أمام إشكال تونسي متواتر منذ الثورة : ازدواجية خطاب الحكومات المتعاقبة: النبرة الاجتماعية للداخل والعقلانية التقشفية للخارج والنتيجة أننا لم نحقق لا المطالب الاجتماعية ولا تحكمنا في نفقاتنا العمومية ..
مهما كان رأينا في حزمة هذه الإصلاحات فالتوافق الداخلي شرط لكل إصلاح ولكل التزام جدي مع الخارج ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115