وشركات الإشهار والزيادة في «نسب المشاهدة». ويرجع مبرّر المقاطعة إلى الاختلاف حول تحديد مفهوم الترفيه والتسلية والمضامين التي ينتظرها التونسيون في هذا السياق التاريخي: كلّ حسب انتمائه الثقافي والاجتماعي والأيديولوجي وقناعاته وتوقّعاته ودرجة وعيه...
فأغلب هذه البرامج تحترف «نشر غسيل» الفنانين والإعلاميين وغيرهم أو البحث عن الإثارة وامتهان كرامة الآخرين، والإيقاع بالضيوف في شرك «الفضائحية» والتسويق للتفاهة والابتذال وردود الفعل البدائية وغيرها. ولذا فإنّها تعدّ حسب الجمهور الباحث عن التسلية الفعليّة لا المفتعلة، والثريّة لا المبتذلة برامج تسوّق للرداءة والبلادة... تتعسّف على المشاهد/ة باعتبار أنّها تزعم أنّ مستوى التونسيّ هو هذا، وأنّه لا يرغب في البرامج الفكرية أو الاجتماعيّة الجادّة والنقدية ومن ثمّة فهي برامج تراعي الذوق العامّ وما يطلبه المشاهدون. ونظرا إلى أنّ استشراء هذه البرامج أضحى ملفتا للانتباه وأنّ المشرفين عليها باتوا يتعمّدون الاستخفاف بالتونسيين فقد شاع في السنوات الأخيرة، الانتقاد والتبرّم والحديث عن «التلفزة القمامة» télé-poubelle وكذلك الإذاعة القمامة في إشارة واضحة إلى البرامج التي تفتقر إلى المضامين ذات الجودة والقيمة.
لكنّ ما يسترعي الانتباه خلال هذا «الموسم السياسي» هو انتقال هذه الرداءة والبلاهة من الفضائيات إلى عالم السياسة. فنحن أمام حوارات وأداء وممارسات وعلاقات سياسية قد نشأت في حاويات القمامة، وتغذّت من المواد المتعفّنة فـ«تخمّرت» وانتشرت الروائح الكريهة وأصبحت سامّة مضرّة بالصحّة النفسيّة للتونسيين، وهو أمر خطير لاسيما وأنّ وزارة البيئة صارت غير قادرة على عمليّة «تدوير النفايات» recyclage أو حرق النفايات بل إنّ الشرطة البيئية معطّلة وعاجزة عن إنزال العقوبات بالمخالفين ومن ثمّة انتشر المفسدون في الأرض.
«فاحت ريحتكم» قالها المحتجّون في بيروت تنديدا ببلوغ الفساد أعلى درجة، وإفراغ السياسية من مضامينها الجادّة وموت «السياسي». وها أنّ التونسيين يردّدون هذه العبارة بعد أن انتشرت عدوى «التلفزة القمامة» في صفوف الفاعلين السياسيين وعمّ الوباء وتنافس الأخوة الأعداء في الابتذال:ألفاظ سوقية وحركات جسد تسوّق للبلطجة وغزوات وتنمّر وعنف وسقوط أخلاقيّ... كلّ واحد يريد أن يعرّي المستور علّه يلفت انتباه الجمهور بمهارته في استعراض الفضائح، فيكسب الأنصار مُتاناسيا أنّ منطق «تورّي نوريّ» قد كشف الزيف والخداع وانعدام الأخلاق ومستوى الانحطاط... ولاشكّ عندنا أنّ التاريخ سيلفظ هذه الفئة الطفيليّة المنتعشة من سياق جعل من هبّ ودبّ يدعّي أنّه «سياسيّ» و«رجل دولة» وله رؤية سياسية... ولذلك يردّد المحتجّون: ستذهبون إلى «مزبلة التاريخ».
وبما أنّ السياسة صارت في بلدنا حاوية قمامة كبرى تلفظ مع كلّ يوم جزءا ممّا بداخلها فيصيبنا الغثيان وتتهاوى مناعتنا فإنّنا نعتقد أنّه آن الأوان للتخلّص منها بأسرع وقت ممكن لأنّ كلّ المعقّمات والتلاقيح لن تساعدنا على مقاومة «كورونا السياسة».
لاطائل، في نظرنا، من وراء البحث عن مشاريع الإصلاح وبعث أكاديميا السياسة والديمقراطية ... فالفئة التي صارت تستحوذ على اهتمامنا هي «البرباشة» بعد أن ارتفع عددهم وصاروا مرئيين تراهم في الأحياء «الراقية» يفتّشون في حاويات القمامة، ويقتاتون على بقايا موائد «الأثرياء» يجمعون ما يعثرون عليه ويُعدّ في نظرهم ذا قيمة... تتحدّث إلى أغلبهم فترى عيونا غائرة وبالا شاردا.
وتكمن المفارقة في أنّ سياسييّ القمامة لا يكترثون بهذه الفئة ويعتبرونها غير مرئية، وعلى الهامش والحال أنّنا جميعا صرنا غير مرئيين في نظر من يعتبرون أنفسهم مجرد أرقام ... عابرون في حياة لم يختاروها. وهؤلاء لا يبالون بمن نجح في الانتخابات ومن حاك الدسائس لمن لا يعرفون أصلا من يحكم البلاد ولا يسمعون بالرؤساء المتناحرين على المواقع والسلطة ...
هذه بعض أسرار القمامة وأشكال التصرّف فيها وقائمة الفاعلين المنتسبين إليها وحقّ لنا اليوم إقحام مبحث القمامة في كلّ المجالات: السياسية والإعلام والتعليم والثقافة...
السيــــــاسة والقمـامة
- بقلم امال قرامي
- 11:10 02/04/2021
- 1438 عدد المشاهدات
يقاطع عدد هامّ من التونسيين/ات البرامج التي يظنّ «مهندسوها» أنّها تندرج في إطار التسلية والترفيه وقادرة على استقطاب الجماهير