على غيره من النظم هو وضع قواعد لعبة قادرة على إدارة التناقضات وعلى حسمها أيضا بطريقة سليمة ومؤقتة،وهاتان الصفتان متلازمتان في النظام الديمقراطي إذ لو خرج حسم الصراع عن السلمية أو عن كونه انتصارا مؤقتا لفريق على آخر نكون قد خرجنا بصفة جلية لا فقط عن إطار قواعد اللعبة بل وكذلك عن الإطار الديمقراطي لحسم الصراعات السياسية ..
في السياسة – كما في مختلف مجالات الحياة – لا ينفك الشكل عن المضمون ،بل لا وجود لمضمون خارج شكل التعبير الذي يختاره الفاعل السياسي ..
اختارت عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحرّ أن تجعل صراعها الأساسي ضدّ الإسلام السياسي بكل تشكيلاته وتمظهراته ،وهذا حق لا ينازعها فيه أحد ولكنها اختارت كذلك ألا تتقيد بأي عرف أو قاعدة أو قواعد لعب متواضع عليها وأن تفرض أشكال صراعها لا فقط على خصمها/عدوها ولكن على جميع اللاعبين في المشهد السياسي وفق إستراتيجية واضحة: لا يوجد فوق الميدان سوى فريقين اثنين لا ثالث لهما : الإسلام السياسي الخائن والعميل وحماة الدولة الوطنية وأن كل سعي لتموقع مختلف إنما هو تحالف موضوعي مع عدو تونس فقط لا غير.. واختارت تبعا لذلك ساحات معاركها وأسلحة المعركة وفق اصطفاف ثنائي لا مكان فيه للثالث المرفوع كما كان يقول المناطقة ..
والسؤال المطروح هنا على جميع مكونات المشهد وعلى عموم المواطنات والمواطنين: هل يحقّ لطرف ما،مهما كانت شرعية القضية التي يتبناها ويدافع عنها،أن يخرق وباستمرار الحدّ الأدنى من القواعد المشتركة لإدارة الصراع السياسي؟
الجواب جاءنا منذ أكثر من قرنين عندما عرّف الفيلسوف الألماني العظيم ايمانيول كانط مفهوم القاعدة الأخلاقية: كل حكمة أو قول مأثور (une maxime) لا يصبح قاعدة أخلاقية إلا متى كان قابلا للتعميم الكلي أو للكونية وكان أخلاقيا عقلانيا بغض النظر عن القائل والمستفيد والسياق.. هل يمكن تعميم ما تفعله عبير موسي اليوم داخل قبة البرلمان ؟ أي لو افترضنا فوز الدستوري الحرّ بالانتخابات التشريعية القادمة هل يمكن السماح لكتلة أقلية (التيار مثلا) أن تفعل غدا في ظل أغلبية الدستوري الحرّ ما تفعله كتلة الدستوري الحرّ اليوم؟لو قلنا نعم،تناسقا مع الواقع الحالي،لحكمنا على البلاد باستدامة الصراعات العبثية إلى ما لا نهاية ..
هنا سيقول بعضهم – وهم كثر –القياس لا يجوز لان عبير موسي تخوض معركة تحرير الوطن نيابة عن الجميع،وما يجوز لمناضلي التحرير الوطني الجديد لا يجوز لغيرهم ..
ولكن الواضح في حكم العقل أن هذا الادعاء (تحرير الوطن من الإسلام السياسي العميل) هو وجهة نظر خاصة لا يشاطرها فيها كل التونسيين بما في ذلك خصوم تاريخيون للإسلام السياسي .. ثم هل يمكن فعلا محاربة النظرة المانوية الاسلاموية التي تقسم الناس إلى فسطاطي الخير والشر إلى مانوية جديدة بين الوطني والعميل وفق تعريف عبير موسي فقط لا غير؟!
عبير موسي ليست وحدها التي تريد حسم المعركة في ساحة وغى يتقابل فيها معسكران متضادان .. التقسيم المانوي للمجتمع هو حلم كل مشروع شمولي مهما كانت شعاراته والمضامين التي يدعي الدفاع عنها ..تختلف التوجهات والغايات والتكتيكات ولكن النتيجة واحدة: التضحية بالديمقراطية وبحل الخلافات والصراعات بصفة سلمية والانتصار لمشروع طهوري يعدنا بجنة أرضية أو سماوية ..
نحن نعتقد أن الدستوري الحرّ يمثل قوة سياسية لها جدارة الوجود وبإمكانها الإسهام في بناء تونس الغد وفق ما يتيحه لها صندوق الاقتراع ، وأن من خصومه تيارات تكفيرية عنيفة لا مكان لها البتة في نظام ديمقراطي.. ولكن رفض الانضباط لقواعد مشتركة لحسم الصراعات والتناقضات يقضي بدوره على ما بقي من الانتقال الديمقراطي.