وتقييمه حتّى يتمكّن المواطنون/ات من الاطلاع على سيرة النائب، وتبيّن مدى قدرته على خدمة الصالح العامّ والتزامه بوعوده واحترامه للقوانين وإلمامه بالقضايا المطروحة وتمكّنه من تطوير معارفه وخدمة الوطن. ولذا تصدر في كلّ سنة التقارير والبحوث التي تساهم في إنارة الرأي العامّ وتحقيق التراكم المعرفيّ في المجال السياسيّ.
أمّا في البلدان التي لا تكترث بالبحوث السياسيّة ولا تبالي بتقييم مسارها السياسيّ ولا تعير اهتماما للدراسات العلميّة فالأمر موكول «للذوق العامّ» وما «تطلبه الجماهير». وقد عكس «المشيشي» هذا التوجّه حين علّق على أحداث البلطجة في المطار: «مش حلو»، ومن ثمّة لا وجود لإرادة سياسيّة للوقوف عند الهنات ولا رغبة للإصلاح والتطوير.
ومادام الأمر كذلك فإنّ المفاهيم والمصطلحات الخاصة بعمل النائب ومهامه والأطر التي تنظّم علاقاته بمختلف المؤسسات وسلطته وأدواره تبقى في أغلب الأحيان، ضبابية وغير محدّدة ويكتنفها الغموض وسوء الفهم. فبعض النواب مقتنعون بأنّ سلطتهم تفوق سلطة رئيس الدولة ولذا يطلقون العنان لأنفسهم فيتصرفون على أساس أنّهم يمتلكون الكلمة النافذة (الحاكم بأمر الله)،
والبعض الآخر يرى أنّ موقعه يخوّل له قضاء مصلحة أقاربه وخلانه فيتدخّل في عمل المؤسسات ويضغط على الرؤساء، ويهدّد ويزبد ويرعد. وحدّث بلا حرج عن سلوك عدد من النواب في أروقة الوزارات أو في الأماكن العامّة إذ يحلو لهم عرض امتيازاتهم/هنّ على الركح الاجتماعيّ، وهم في ذلك معذورون فمن كان يصدّق أنّ «الكناتري» يتحوّل إلى نائب، ومن كان يتوّقع أنّ محدودي الثقافة والفهم سيصبحون «مشرّعين» ومتحدّثين باسم الشعب... وما كان لنا أن نكتشف هذه الشخصيات المعطوبة لولا حدوث كلّ هذه التحوّلات ففي ظلّ حلول الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يتصدّع البنيان وتنتعش الشعبوية. وفق هذا التطرح تفهم الشعبويّة على أنّها ردّ على الديمقراطية الليبرالية العليلة.
وقد وجد المهتمون بدراسة الشعبويّة داخل الأحزاب وشائج بين السلوك الشعبويّ لعدد من النوّاب وسلوك المولعين بأفلام «البورنو» إن كان على مستوى الهوامات (fantasmesوالرغبات والشوق والافتتان بالصور والحرص على تحقيق نوع من الإشباع و... ولم يفت الدارسين التنبيه إلى أنّ الأحزاب اليمينية الشعبويّة تميل عادة إلى التلاعب بالمبادئ والقيم التي قامت عليها الديمقراطية الليبرالية وبالسيادة الوطنية لصالح تحقيق مصالحها الخاصّة، وهي إذ تفعل ذلك تنطلق من تمثّل خاصّ للقوانين. فليس القانون، عند انصار الشعبويّة إلاّ أداة وليست النصوص إلاّ مادّة للعب: لعبة التأويل والتحيّل عليها من خلال الفجوات والتناقضات والمفارقات الداخلية.
وعندما نحلّل ما وقع يوم الاثنين من أحداث هرج ومرج من منظور ينزّل السلوك البلطجي في إطار الشعبويّة الصاعدة في بلادنا نتبيّن أنّ انطلاق هذه الممارسات والخطابات قد ارتبط بإرباك حصل على مستوى النظام الاجتماعيّ، ومنظومة القيم واعتقاد سائد بأنّ النظام والقوى السياسية والنخب الفكريّة عاجزة عن كسب ثقة الجموع وأداء دورها التعديليّ والإصلاحيّ،
يضاف إلى ذلك ضعف الأحزاب التقليدية وعدم قدرتها على مواجهة الواقع المتغيّر بسبب فقدانها لثقة الجماهير، وعجزها عن طرح البدائل والتفاعل مع مطالب المهمشين والمستبعدين. ولا يمكن أن نغفل عن دور مواقع التواصل الاجتماعي في هذا السياق إذ وفّرت فضاء للتعبير عن الآراء دون وساطة ودون التقيّد بشروط البلاغة فعمّمت الحق في التعبير.
ويمكن القول إنّ ما جرى خلال هذه الأشهر يثبت أنّنا إزاء انبثاق «سياسة ضدّ السياسة» politique anti-politique، أي ممارسات ممنهجة تروم تفريغ الفعل السياسي المألوف والذي يتصوّر أنّه «طبيعي» من كلّ مضامينه وتجريده من المبادئ والقيم التي تحكمه(ولذلك يعلّق معظمهم: «موش نورمال، مشهد سريالي...). وتكمن المفارقة في أنّه كلّما حاد الشعبويّ عن السلوك المعتاد اكتسب جماهيريّة لدى الفئات التي يمثّلها، والتي تتوق إلى شرعنة البلطجة، وتلك أزمة التمثيـلية السيــاسية في عصر الفايسبوك، وinstragram، وتوتير.. عصر لم نتمكنّ فيه من تحويل هذه الوسائط إلى وسائل لإثراء الزاد المعرفي وتحقيق التنوير التكنولوجي وتحرير العقول .والظاهر أنّ الميديا الجديدة أضحت الحبل الذي يلفه «السياسي» حول رقبته رغبة في البروز فإذا به يودي بحياته: إنّه قتل رمزيّ للفعل السياسيّ.