دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية بعد أن نالوا ثقة مجلس نواب الشعب .
مواقف التصعيد الّتي ميّزت تصرف الرئاسات الثلاث ،أغلقت أبواب الحل ، إلى درجة أنه بدأ يتأكّد بأن حل الأزمة بالنسبة للمتسببين فيها ، يكمن في دوامها ، خاصّة بعد أن وضع كل طرف نفسه في حلقة مغلقة لا منفذ فيها للتراجع أو الهروب،في تعنت يبدو بعيدا كل البعد عن التفكير السياسي السليم.
فبعد أن اشترط رئيس الجمهورية قيس سعيد إستقالة المشيشي، للانخراط في حوار وطني ، رد رئيس الحكومة بأن حكومته تمد يدها لمبادرة الحوار الوطني الّتي تقدّم بها الاتحاد العام التونسي للشغل ، معتبرا طرح غير ذلك «مضيعة للوقت» موضحا أن «المهم هو التجمع حول ما يوحد التونسيين و أولها معركتهم ضد الإرهاب و ضد المشاكل الإقتصادية المتراكمة إضافة إلى معركة «كوفيد 19» ملاحظا أنه لا يجيد المعارك ضد طواحين الريح و لا يهتم بها .
كلام جميل و معقول ، لولا أنه سبق لرئيس الحكومة الّذي يمدّ يده اليوم للحوار أن نسي أو تناسى أنه عجّل بالتحوير الوزاري ، لاستباق أي رد إيجابي على مبادرة الاتحاد، في سعي منه و بتدبير من حزامه الدّاعم له ، إلى سحب البساط و الهروب إلى الأمام ،لتخطو البلاد خطوة نحو الأزمة الّتي تعيشها اليوم . كما تجاهل المشيشي عرض ما يخطّط له وما يملك من حلول لتجاوز الازمة الّتي تعيشها البلاد.
إن دعوة المشيشي إلى الحوار ، يدفع إلى التساؤل عن سبب تجاهله الدعوة إلى الحوار قبل التحوير الوزاري ، ثم الدعوة إليه الآن . فما الفرق بين الأمس و اليوم لو اعتبرنا أن نوايا المشيشي صادقة ؟ الفرق بيّن . فحوار الأمس كان ممكنا لو تمّ التأني و التشاور و تجنب لي الذراع من أي طرف كان . في حين أن الدعوة إلى الحوار اليوم ، المتناغم مع دعوة النهضة ، بعد السقوط في مأزق سياسي ، أصبحت دعوة بلا رصيد و لا مصداقية .
إن ذاكرة المشيشي لا تخونه ، و لكن تقديراته و تقديرات من هم في الصف الأّول من الدّاعمين له ، لم تكن موفّقة ، لأنهم يتناسون أنهم يحبّذون الهرولة بدل التأنّي و يبنون خياراتهم على «أحلامهم» ، لذلك يعتبرون أن ما يحصل اليوم «مضيعة للوقت» متجاهلين في نفس الوقت هذا و أكثر منه ، أضاعته تونس طيلة السنوات الماضية في «طواحين الريح» المُعطّلَة، بسبب التوجهات المُستنزفة للقوى الحية الطامحة لجعل طواحين الريح مولّدة للطاقة .
إن «طواحين الريح» الّتي يقول المشيشي أنه لا يجيد معاركها ، تعيدنا إلى أواخر صائفة 2013 عندما لجأ السيد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي آنذاك إلى تعليق جلسات المجلس وواصل نواب المعارضة مقاطعتهم لهذا الهيكل ، في حين لم تقدّم حكومة العريض إستقالتها في البداية و واصلت تسمياتها لمن تراه و عزل من تراه متمادية في تسييرها لشؤونها العامّة، في ظرف كانت مبادرة الراعي للحواري مطروحة بقوّة للدفع نحو الحلول التوافقية . هذا الوضع شبيه بنفس الوضع الذي عاشته البلاد في المرحلة الانتقالية ،و لكن بمخرجات و «زعامات» أخرى و «أرصدة أخرى» وفي ظروف مغايرة.
المُرجح أن رئيس الجمهورية قدّم شرطا لن يتراجع عنه، كما فعل عندما أصر على عدم دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين أمامه، و دعّم هذا الموقف، بمواصلة التصريح بنبذ و مقاومة الفساد ، الّذي لا يتبناه أحد و في مقدّمتهم المعنيون به. هذا الموقف يعني ، أن الحلول الوسطى الّتي اقترحها البعض ، كتنحي الوزراء الّتي تحوم حولهم شبهة فساد ، (إن أقرّوا بذلك ) لم تعد مطروحة ، و هو ما يقودنا إلى القول ، بأن التنازل المنتظر لن يكون إلاّ من الشق المقابل أي من رئاسة الحكومة ، أو من الحزام الدّاعم لها .
و لو أن تصريحات رئيس الحكومة تبدو صادرة عن الواثق بنفسه و كأنه الماسك بمصيره بيده ، إلا أن الثقة تبدو مفرطة و غير مضمونة ، لأنه يكفي أن تتغير معادلات الأطراف الداعمة و تحالفاتها ، كي يجد المشيشي نفسه بين «السماء والأرض» أي في الهواء .
وما ينساه الجميع أن تونس إزاء مصير دولة و إعتبارات سيادية، و أن بقاء الحال على ما هو عليه، لا يقلّل فقط من شأن مقومات الدولة التونسية و سمعتها ، و إنما يهدّد مصالحها ، و ما حديث المشيشي عن المضي قدما لتنفيذ برنامجه في ظل هذا التنافر بين مؤسسات الدولة، إلا دليل على عدم الدراية بالآليات والسياسية والإقتصادية و التعهدات و الإرتباطات الدولية . هذا القول ينطبق على داعمي المشيشي أيضا ،و في مقدمتهم حزب النهضة و حزب قلب تونس . فالدفع نحو التعفّن ، لن يكون في صالح تونس ، ولن يسمح بالتعديلات الضرورية لتصحيح المسار وتجنيب البلاد المخاطر و تبعات الإنهيار ...