خطاب حاد وصدامي وتعميق القطيعة بين مؤسسات الدولة: هل من عاقل في هذه البلاد ؟

أشد الفاقة عدم العقل. والفاقة هي الفقر والحاجة. اي ان اشد ضروب الفقر هو الافتقار لعقل. وفي تونس اليوم اصيب العقل السياسي بالفاقة.

اذ يستمر تناحر مؤسسات الدولة وإتباعها لنهج التصعيد بينما يستوجب التعقّل والبحث عن حل يقينا وإياهم مما يلوح من كوارث في الافق.

عوضا عن انكباب مؤسسات الدولة والماسكين بها والطبقة السياسية الفاعلة في البحث عن مخارج من الازمة السياسية التي تبلغ اليوم اسبوعها الخامس. انكبت على تصعيد الخطاب والبحث عن انتصارات تعزز تموقعها وتحصن قلاعها. غافلة عن ان البلاد باتت في قلب ازمات مالية واقتصادية خانقة تهدد السلم الاجتماعي.
حركة النهضة من شارع محمد الخامس بالعاصمة. تستعين بأنصارها وقدرتها اللوجستية للتعبئة بهدف إبراز الثقل والضغط اكثر على رئاسة الجمهورية. التي اختار القائم عليها قيس سعيد ان يطلق سهامه من القيروان لتستهدف النهضة والطبقة السياسية الداعمة للحكومة من خلفها.

خطب عصماء تعلن تمسك كل طرف بمواقفه والدفع بالأخر الى التنازل والقبول بما يقدم له من مخارج. النهضة تريد ان تحفظ للحكومة مكانها في المعادلة وأساسا تريد الابقاء على رئيسها هشام المشيشي. والرئاسة تريد ان تقع ازاحته والبحث عن خيار بديل وتعرض في المقابل ان تكون عملية الاختيار مختلفة هذه المرة.
بين ما يعرض من مخارج. هناك نقاط يلتقي فيها الطرفان. لكن بدل التعقل والتحاور لإنقاذ البلاد التي لا يسمح مناخها الراهن بالتصعيد الكلامي او المناورات بين المتناحرين. يستمر التصعيد من هذا وذاك. تصعيد تجدد يوم السبت الفارط واستمر الى غاية امس.

ليكون الخطاب حادا. انتقل بالأزمة الى مرعبات اخرى أشد. كما انتقل بها جزئيا من السياسي الى «الذاتي » وذلك بان نزع كل منهما عن الاخر « أخلاقه » او «عقله». وكل طرف يدفع بما له من انصار الى تأجيج الحرب. وفي ظنهما ان في ذلك تحسين لشروط التفاوض وتعزيز للمكاسب المغتنمة لاحقا.
لكن ما بات جليا ان التصعيد لم يكتف فقط بتأجيل الحل ولا تأزم الوضع بالبلاد اكثر لكنه عقد من قدرة اطراف الصراع على التقارب لاحقا والتفاوض بشكل عقلاني. ومما جعل حلولا كانت في الامس مقبولة لكليهما او لأحد منهما تصبح اليوم مرفوضة بشكل قاطع. كما انها عقدت مبادرات الوساطة بين المتناحرين.

كل هذا ولا يزال المتناحرون في طور التصعيد والبحث عن تسجيل نقاط على الاخر. ظن منهم ان النتيجة تحتسب في النهاية بمن حقق نتائج اعلى. على غرار ما اقدمت عليه رئاسة الحكومة امس بفتح تحقيق بشأن تلقى الرئاسة جرعات من تلقيح كوفيد- 19 كهبة. ومعالجتها لما تم في سياق تصعيدي يندرج في مسارها الذي انطلق باستشارات قانونية ولجوء الى المحكمة الادارية وإعفاء للوزراء وكلها خطوات قابلها النفور والتصعيد من الرئاسة.

كل هذا والبلاد اليوم بلغت مرحلة الاختيار بين استقلالية قراراها السياسي والاقتصادي وبين قدرتها على الايفاء بالتزاماتها المالية داخليا وخارجيا. اي انها بين خيار الافلاس او التمسك بالقرار السيادي وذلك كونها اليوم امام فرضيتين اما رفض شروط الجهات المانحة والمقرضة - ومنها صندوق النقد الدولي- التي تدخلت بشكل محتشم في الوضع الداخلي بهدف الضغط لحل الازمة وتكبد التابعات المالية أو الاذعان بأشكال مختلفة وتجنب الافلاس وفي هذا ضرب لاستقلالية القرار وإضعاف للدولة.

حقيقة معلومة وان كان خطاب الرئيس من القيروان ينفيها ويعتبر ان الحديث عن افلاس تونس غير صحيح ويندرج ضمن المناورات. وان للبلاد مقدرات مالية هامة إذا توفرت الارادة والنوايا الصادقة. وذلك في معرض هجومه على النهضة والحكومة.

بعيدا عن ما قد يكون مختمرا في اذهان الفاعلين الاساسيين في المشهد والأزمة السياسية. من تصورات ومقاربات وفهم لطبيعة الوضع والمرحلة الراهنة. يبدو جليا ان كل منهما يريد ان يحاصر الاخر اكثر ويضغط عليه. الحكومة وحزامها تريد ان تشكل جبهة ضد الرئاسة وتعزلها في المشهد على اعتبار ان الرئيس من «كوكب اخر». والرئيس يريد الضغط لجر الطبقة السياسية الى مربعه الذي يقوم من منطلق ان الاخلاقي سابق للقانوني والقانوني سابق للسياسي. وعليه فان مجال النقاش ليس سياسيا بقدر ما هو اخلاقي وقانوني وهنا يصبح الرئيس «الحكم».

هذا التناحر والصراع بين تصورين لطبيعة المرحلة في تونس وللمشهد السياسي، أين يكمن الخلل فيه ومن اين ينطلق الاصلاح؟. هو اليوم بمثابة اللغو إذا وضع جنبا الى جنب مع الازمة الفعلية للبلاد. وهي مالية وسياسية في ذات الوقت. وعليه فان معالجتها تنطلق من الاهم فالمهم.

والاهم اليوم في البلاد هو تجنب الافلاس وهذا يستوجب اغماد السيوف التي سلّت وإقرار الهدنة. في مستوى الخطاب والكف عن المناورات بما يوفر أرضية تمكن الوسطاء من تقريب وجهات النظر. ومن القدرة على توفير ضمانات. وهي مهمة صعبة بعد ان عمق الطرفان الاساسيان في الصراع البون بينهما وفقد كل منها الثقة في الاخر.

المهم اليوم ان يلعب الماسكون بالسلطة دورهم كرجالات دولة وليس كمرشحين او شيوخ جماعة. فالبلاد على شفا انهيار كلي ان عجزت عن تعبئة موارد مالية اي الحصول على قروض من المؤسسات الدولية حتى وان اعتقد البعض انها تنام على كنوز او انها تستطيع معالجة ازمتها الاقتصادية بحلول من قبيل وقف استيراد الموز. فليكن ذلك رأيهم المهم ان تنقذ الدولة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115