ومن الحكام إلى المعارضين.. الكل يدعو إلى ضرورة انتهاج منوال تنموي جديد ، ولكن قلّ وندر أن اقترح علينا بعضهم ماهية هذا المنوال وطريقة تطبيقه في البلاد ..
وعندما نسعى إلى فهم كنه هذا الإجماع حول مفهوم غامض نكتشف أن الإقرار الظاهري بهذه «الضرورة» إنما ينبع في الأغلب الأعم من الخضوع للأفكار السائدة والتي لا يجرؤ أحد على مناقشتها كما كانت الاشتراكية في الستينات والديمقراطية وحقوق الإنسان في التسعينات ولكن كل طرف يضع ما يريد في هذا الشعار العام وتكون النتيجة أننا نستعمل لفظا واحدا للتدليل على معان مختلفة بل ومتناقضة في أحيان عديدة ..
عند جزء من النخب التونسية «المنوال التنموي الجديد» هو اختيار إيديولوجي معارض جوهريا لاقتصاد السوق ، فالمقصود هو تغيير علاقات الإنتاج بالأساس أي الانتقال من نظام رأسمالي إلى الاشتراكية أو إلى نظام لا رأسمالي يقوم على أولوية النظم التعاونية المعروفة تحت المسمى الكبير بالاقتصاد التضامني وبتدخل الدولة لا فقط في توزيع الثروة بل وفي إنتاجها أيضا عبر التوسيع المستمر للقطاع العام..
على عكس ما يُعتقد، نحن لا نصف أفكار بعض المجموعات اليسارية بل جزءا هاما من الأفكار المهيمنة داخل الفضاء السياسي والنقابي والجمعياتي حتى وإن لا يتم التعبير عنه بمثل هذا الوضوح.. إذن لا معنى لتغيير منوال التنمية عند هذا الطيف الواسع ما لم يتم تغيير أو تعديل في علاقات الإنتاج وفي ملكية وسائل الإنتاج وفق التعريفات الماركسية الكلاسيكية .
لو تجاوزنا هذا المستوى الإيديولوجي في النقاش سوف نجد أن جلّ من يتحدث عن ضرورة تغيير المنوال التنموي من اقتصاديين وسياسيين ومتثقفين إنما يقصدون به الانتقال من اقتصاد ذي قيمة مضافة محدودة ميزته التفاضلية الأساسية هي تدني كلفة اليد العاملة إلى اقتصاد ذي قيمة مضافة عالية من جهة،ومن جهة أخرى اقتصاد يدمج جلّ فئات المجتمع ولا يتركها على قارعة الطريق ،سواء أتعلق الأمر بالجهات أو بالشباب أو بالنساء أي الفئات الأقل إدماجا والأكثر هشاشة في المنوال التنموي الحالي ويضيف بعضهم أن هذا الاقتصاد ذا القيمة المضافة العالية والمدمج لكل فئات المجتمع ينبغي أن يشتغل أيضا وفق منظومة تنموية مستدامة وصديقة للبيئة .
من بإمكانه أن يعارض هذه المبادئ النبيلة ؟
وهل يوجد تونسي واحد لا يريد اقتصادا ذا قيمة مضافة عالية ومدمج لكل فئات المجتمع وصديق للبيئة؟ ولكن يبقى السؤال الأساسي - على فرض تخلصنا الكامل من الأوهام الإيديولوجية – هو في معرفة أقصر وأنجع الطرق المؤدية لهذا المنوال التنموي الجديد وماهي حوامله الأساسية وهل بإمكان الاقتصاد التونسي أن ينخرط كله في هذا المنوال أم أن أقصى المنى توسيع دائرة هذا الاقتصاد الجديد الذي سيجبر على التعايش لمدة أجيال مع منوال التنمية الحالي ..
ما معنى القيمة المضافة العالية ؟ أحيانا يذهب بنا الظن إلى أن هذا متعلق فقط بالاقتصاد المعتمد على أدق وأرفع أنواع التكنولوجيا ولكن الحقيقة أعم وأوسع من هذا بكثير.
لنأخذ مثالا حيا من الاقتصاد التونسي الحالي .
تونس من أهم منتجي زيت الزيتون في العالم ، وهي تصدر غالبية إنتاجها لدول الاتحاد الأوروبي وأساسا لايطاليا واسبانيا دون تعليب ،إذ لا تتجاوز الكميات المصدرة المعلبة حسب آخر تحيين ربع الإنتاج المحلي وحتى عندما ننظر إلى السوق الداخلية نجد أن التعليب مازال هامشيا .نحن هنا أمام حالة نموذجية للقيمة المضافة المتدنية والحال أن كل المتدخلين في هذا القطاع ومنذ أربعين سنة على الأقل ينادون ويطالبون بضرورة التعليب أي تحقيق قيمة مضافة عالية في أهم قطاع فلاحي .. ولكن ما الذي يجب أن يحصل حتى نتمكن من تعليب كل إنتاجنا من زيت الزيتون ؟
ينبغي علينا بداية أن تكون لنا جملة من الماركات المسجلة القادرة على استيعاب كامل إنتاجنا السنوي وأن تكون لهذه الماركات أسواق خارج الاتفاق الإطاري مع الاتحاد الأوروبي بما يجعل المؤسسات المنتجة لهذه الماركات قادرة على منافسة الماركات الأوروبية داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه وهذا يفترض جودة عالية ومستمرة للمنتوج بدءا من رعاية شجرة الزيتون مرورا بعملية الجني ثم التحويل والمراقبة الذاتية في المخابر الخاصة لهذه المؤسسات وعلامات جودة محلية وإقليمية ودولية ..ولكن كل هذا لا يكفي إذ ينبغي أن تكون لدينا قوة تسويقية في جل بلدان العالم إذ لا يكفي إنتاج علامة تونسية لزيت الزيتون بل ينبغي أيضا أن تكون لنا القدرة على التسويق ، ثم التعليب ليس فقط وضع كمية مخصوصة من زيت الزيتون في قارورة بل هو القدرة على إنتاج أرقى أنواع أصناف الزيتون لا فقط لاستعمالات الأكل بل وكذلك للتجميل وللمداواة وان يكون هنالك إبداع في تصميم القارورات من مختلف الأحجام والأشكال .. وإذا حققنا كل هذا سوف تتضاعف مداخيلنا من زيت الزيتون أربعا أو خمس مرات على الأقل ..
وهذا يستوجب كذلك استثمارات هامة في التعهد البيولوجي لشجرة الزيتون وفي آلات الجني العصرية والمعاصر ذات التكنولوجيا المرتفعة وأن يكون لنا مهندسون وتقنيون سامون في مختلف مهن زيت الزيتون وان تكون للمؤسسات المنتجة لهذه العلامات التونسية قوة اقتصادية تسمح لها بهذه الاستثمارات الضخمة وبتوظيف هذه الكفاءات العالية من علماء ومهندسين ومخبريين ومصممي القوارير والمسوقين من ذوي الكفاءة الدولية ..وهذا يفترض أيضا أن جامعاتنا ومعاهد التكوين المهني عندنا تنتج سنويا ما يكفي لتحقيق هذه القيمة العالية والمحافظة عليها واكتساح أسواق جديدة ومجالات استعمال مستجدة ..
ينبغي أن نعلم أن بعض المؤسسات الاقتصادية لم تنتظر أحدا للرقي في سلم القيم ولكن ما ينقصنا هو التخطيط الاستراتيجي والانجاز ودعم هذه المؤسسات لولوج أسواق جديدة وللقيام بالعمليات الاشهارية المكلفة للغاية..
ما قلناه عن زيت الزيتون يصح بدوره على كل القطاعات الفلاحية والصناعية الخدماتية وعلى كل نشاط اقتصادي أيا كان حجمه
ولكن كل هذا يحتاج إلى دولة مخططة تقوم بثورة جذرية في التعليم والتكوين لتوفير الكفاءات العليا ذات القدرة التنافسية الدولية ثم اختيار القطاعات المؤهلة قبل غيرها لصعود سريع في سلم القيم وتيسير المبادرة الخاصة فيها ورفع كل العراقيل البيروقراطية ومرافقة كل المؤسسات من الصغيرة جدّا إلى المجاميع الضخمة والرفع المستمر من قدراتها التنافسية حتى تفرض البضاعة التونسية في الأسواق العالمية وتتخلص من التبعية الاقتصادية لبعض المضاربين في الضفة الشمالية كما هو الحال اليوم مع زيت الزيتون .
ولمزيد النجاعة والعدالة في آن لا يمكن الاكتفاء ببعض مراكز الجودة في بعض المدن الساحلية ،بل ينبغي أن تتحول كل جهات البلاد إلى مراكز جودة وتفوق وأن تكون لها علامات دولية لزيت الزيتون المعلب وللملابس الجاهزة ولانجاز البرمجيات وتطوير الحلول الإعلامية في مختلف المجالات وللسياحة الريفية والثقافية والترفيهية ، وأن تعمل الدولة المخططة على رعاية التألق في كل مجالات وفي كل شبر من تراب الجمهورية وألا يكون ولوج هذه القطاعات ذات القيمة المضافة العالية حكرا على بعض الجهات أو بعض العائلات .
المنوال التنموي الجديد هو ورشات عمل تشبه خلايا النحل في كل أرجاء البلاد تتنافس فيما بينها في التجديد والابتكار والاختراع وتعمد على التشبيك كلّما كان ذلك ضروريا لنموها ولمواجهة المنافسة العالمية العاتية ..
المنوال التنموي الجديد هو أن تكون لدينا ، بحسب عدد السكان الحالي ، مليون مؤسسة اقتصادية ،وأن نضاعف عدد السكان النشيطين من أربعة ملايين إلى ثمانية وأن تتنافس كلياتنا وجامعاتنا ومعاهدنا التكوينية في خلق أجيال التميّز والكفاءة العالية .
ما الذي يعيقنا عن كل هذا ؟
الذي يعيقنا عن كل هذا هو أن جزءا من النخب لم يشف بعد من أوهامه الإيديولوجية،وساسة همهم الانتصار في الانتخابات أو الالتفاف عليها على حدّ سواء والحروب الكلامية بين فرقاء يعتقد كل واحد منهم انه يملك مفاتيح الجنة ودولة أحجمت عن التفكير في المستقبل وحركات اجتماعية ترى أن التنمية تقتصر على ضخ الدولة لأموال إضافية وإعلام يهتم في الأغلب الأعم بصغائر الأمور وصراعات التفاهة ..
مـا يعيقنــا في الحقيقـــة هـو هيمنـة التفــاهة (la médiocratie) على حياتنا العامة .. ما يعيقنا هو حكم التفاهة والتافهين على حد عبارة الفيلسوف الكندي ألان دينو (Alain Denault) وما دمنا غارقين إلى النخاع في عصر التفاهة فلن نتمكن من خلق شروط هذا المنوال الجديد للتنمية.
(يتبع)
VIII- ثورة الصناعات الثقافية