و جمعية القضاة . هذا الإتفاق كانت فيه الحكومة ممثلة بـ«رأسين» وكأن وزير العدل قد وقّع على الوثيقة بصفته مشرفا مباشرا، و كأن توقيع ممثل رئيس الحكومة كان بصفته ضامنا لتنفيذ ما تمّ الإتفاق بشأنه. لذلك اعتبر رئيس الجمعية الاتفاق بمثابة «يبان تكريس المبادئ الأساسية لإستقلال السلطة القضائية» وليس إتفاقا عاديا ، فقدّمته الجمعية هدية للقضاة والمتقاضين «بمناسبة الاحتفال بذكرى الثورة» ،حسب قول رئيس الجمعية، الّذي أكّد أن الجميع سيتبينون أثار هذا الاتفاق بداية يوم الإثنين21 ديسمبر المقبل.
ورغم لهجه الإفتخار والإعتزاز الّتي قدم بها رئيس الجمعية مختلف نقاط الإتفاق، إلا أنه بدا متوجسا من ردود الفعل المنتظرة ممّا جعله ينبّه خلال استعراض «الحدث» أمام الصحفيين ، من التشكيك أو التقليل من شأن ما تمّ التوصل إليه إثر حوار مارطوني من الجلسات شاركت فيه نقابة القضاة . لكن لم يفسر رئيس الجمعية سبب غياب نقابة القضاة عن الندوة الصحفية أو سبب عدم إمضائها للبيان . غير أن المتابعين للندوة الصحفية تعرّفوا على رد فعل النقابة سواء أثناء الندوة أو إثرها بما يُفهم منه أن نقابة القضاة ،لم تستسغ عدم التشاور معها في صياغة «البيان» و عدم الرجوع إلى قاعدة القضاة قبل إمضاء الاتفاق، و لعل صدور بيان رسمي منها لاحقا سيكشف موقفها مما اعتبره بعض أعضاء النقابة غير مستجيب لانتظارات القضاة و هو ما قد يمنعهم من استئناف العمل.
إن محتوى البيان الّذي قدمته الجمعية ، يتضمن ما لا يقل عن عشر نقاط تتمثل في ما اعتُبر تدعيما للمكانة الإعتبارية للقضاء ،وتجسيدا للأمان المالي و تعجيلا بإستكمال القانون الأساسي للقضاة ودعما لمقترح صندوق جودة العدالة و تسريعا في صرف منحة الاستمرار و مراجعة للنظام الترتيبي لتعاونية القضاة وضمانا لصرف مبلغ 2 مليار كتمويلات اضافية للتعاونية ، و تنقيحا للنصوص الترتيبية لديوان مساكن القضاة ، مع الإعلان عن عقد جلسة لبروتوكول صحي والقيام بما يلزم للتعقيم الدوري للمحاكم.
جميع هذه النقاط كشفت أن الأهداف الحقيقية للإضراب بعيدة عن مطمح إصلاح القضاء أو غيرها من المطالب الحارقة الّتي تستوجب تغيير وجه القضاء و بذلك يصطدم المتابع مرّة أخرى، بحقيقة الشعارات، و بالارتجال الّذي تُعالج به الحكومة الاشكاليات الّتي تواجهها بعد شهر من توقف مرفق العدالة .
إن العارف بشؤون القضاء يعرف مسبّقا مخلفات تعطل العمل في المحاكم على مصالح المتقاضين و المواطنين ، كما يعرف آثار ذلك على الاداء في المستقبل بسبب تراكم الملفات وضياع بعضها و تعقيدات توصّل المتقاضين والمحامين في متابعة مسار قضاياهم و كيفية فصلها بعد اللّخبطة الّتي عرفتها المحاكم ، مع تبعات تراكم ملفات الشكايات الّتي تكدّست لدى الضابطة العدلية في مختلف جهات الجمهورية .
كل ذلك كان مقابل وعود تخص بعض المصالح القطاعية ستوكل إلى عدّة لجان لا أحد يجزم أنها ستكون قادرة على حل إشكاليات القضاء في غياب الأطراف الفاعلة فيه، بدءا من المجلس الأعلى للقضاء ،الهيكل الّذي كانت الجمعية تدعو إلى دعم و تفعيل دوره ليكون مؤسسة عليا لتسيير القضاء وقيادة قاطرة تغييره .
لن أحاول قراءة تلميحات رئيس الجمعية للأطراف المتربصة بالقضاء أو التي لا تريد خيرا للقضاة ، و إنما سنعيد ما سبق التأكيد عليه عند التعرض لمقتضيات إصلاح القضاء في أكثر من مناسبة . فلا يمكن تصور إصلاح شأن القضاة دون إذابة الجليد بين مختلف الهياكل الّتي تمثلهم و توحيد صفوفهم وطلباتهم و مواقفهم بخصوص أولويات حياتهم المهنية و دورهم في المجتمع فلا يُستساغُ أن يمكثوا غير قادرين على عقد اجتماعات ولقاءات بينهم، للتباحث حول شأن يخصهم جميعا ، و دون التفاعل فيما بينهم وبينهم وبين بقية مكونات القضاء والتنسيق بالكيفية الّتي تضمن السير العادي للقضاء مع العمل على اتباع كل المسارات الممكنة لفرض صوتهم لتغيير أوضاعهم وأوضاع القضاء بمعية من يشاركونهم في إقامة العدل بإرادة جادة و خلاقة .
لا يجب أن تنسى الجمعية و مختلف الهياكل التي تشكلت كنقابات أو جمعيات،أن السلطة القضائية يديرها المجلس الأعلى للقضاء الّذي أنشئ بطلب منهم و من مختلف الهياكل المعنية ،و أنه هيكل دستوري يُعنى بالقضاء عموما و ليس بالقضاة فقط . و كان عليهم أن يحرصوا على تفعيل دور هذا المجلس.
لقد أكدنا أن أمر إصلاح القضاء لا يتوقف على توفير إنشاء «صندوق جودة العدالة» لتوفير بعض الإعتمادات لحل كل الإشكاليات الّتي يعيشها القضاة ولتوفير الظروف الملائمة لحسن سير المحاكم و مختلف المؤسسات القضائية .
إن عدم تركيز سلطة قضائية قوية ومحايدة أدى على مرّ السنين إلى تعميم عدم رضا المتقاضين اللاّهثين وراء حقوقهم والحريصين على حرياتهم و كذلك إلى توسع رقعة عدم رضا الفاعلين في هذا المجال أي لدى أغلبية القضاة و المحامين الّذين ملّوا انتظار تغيير شأن القضاء و ظروف العمل السيّئة ويتطلّعون إلى الاطمئنان على أوضاعهم و مستقبلهم. ولكننا لا نرى تفاعلا لدى السلطة العامة و لدى أطراف فاعلة من أصحاب الشأن و هياكلهم لتغيير الأوضاع السائدة .
لقد تعطل القضاء طيلة شهر و لا يمكن أن نتصوّر أن تفضي الوعود المضمنة في الاتفاق الأخير إلى تغيير وجه القضاء و مؤسساتها ، لأنها كانت مبنية على ضغط غير واقعي و غير شعبي ومتضمنة لمسائل تتجاوز صلاحيات الجمعية ، والإستجابة الظاهرة للحكومة كانت لحفظ ماء الوجه و تجنب مزيد تعكير الأوضاع ، و الخشية أن يتواصل تعطيل سير العدالة لإصرار نقابتي القضاة والكتبة على مواصلة إضرابهم بسبب عدم تشريكهم الفعلي في صياغة بيان الإنقاذ المعلن عنه و تضمين تصوراتهم ، فيصبح «الحل االمعلن» جزءا آخر للمشكلة.