نلاحظ بسرعة البون الشاسع بين الإمكانيات الفعلية للبلاد ككل أو لقطاع ما والمطالبات النابعة من كل أوساط المجتمع إلى درجة أن البعض يصاب بالإحباط وباستحالة إمكانية كل إصلاح ..
لنقل منذ البداية بأن هذا البون الشاسع هو وضع جلّ دول العالم اليوم ويكفي للاقتناع بذلك مطالعة الكتاب الدوري الذي تعده مصالح الاستعلامات الأمريكية في نسخته الأخيرة «العالم سنة 2035 كما تراه وكالة الاستخبارات الأمريكية «CIA» * والذي كان محوره الأساسي «مفارقة التقدم» إذ بقدر ما تتزايد موضوعيا إمكانيات جلّ البلاد العالم، يتزايد عجز الحكومات عن تلبية مطالب شعوبها ،وهذا كما قلنا لا يتعلق فقط بالبلدان الفقيرة أو ذات الدخل المحدود بل وكذلك بالقوى العظمى إذا ما استثنينا من هذه الصورة العامة الصين وبعض البلدان الآسيوية ..
ما السرّ في هذا البون الشاسع والمتفاقم أيضا ؟
الجواب بسيط إلى حدّ كبير : تطور إمكانيات كل بلد يتبع إجمالا نسبة نموه فهو بطيء، في جلّ أصقاع العالم خاصة إذا ما قصرنا نظرنا على المدى القريب أما تطور المطالبات فهو يتبع تفاقم الرغبات والحاجيات الفردية والجماعية وفي طموح العدد الأعظم في تحسين سريع لنوعية حياتهم بما يجعل نمو المطالبات أرفع أضعاف المرات من التطور البطيء لإمكانيات بلد ما ..
تونس في الحقيقة في هذا الموضع بالضبط بما يعني أن تغيّر الحكومات أو الأغلبيات، لوحده،غير قادر على مسايرة هذا النسق التصاعدي للمطالبات وهذا ما يخلق عندنا وفي جلّ دول العالم غضبا على النخب السياسية وسخطا على الحكام واتهاما لهم في أحسن الحالات بالعجز،إن لم يكن بالفساد وبسرقة أموال الشعب وبالعمل فقط لفائدة الحيتان والبطون الكبيرة والتفقير المتزايد للشعب بإتباع سياسات تقشفية تكون الطبقات الوسطى والشعبية هي المتضررة الأولى منها ..
جلّ دول العالم اليوم أمام هذا الإشكال الذي يبدو انه لا حلّ واضح له، ولكن بلادنا توجد ولاشك في كوكبة الطليعة في تصنيف هذا البون ، فارتفاع نسبة المطلبيات عندنا ارفع وقدرة استجابة السلط العمومية اضعف ومنسوب الثقة فيها يكاد يكون منعدما والدولة عندنا مستضعفة وواقعة تحت ابتزاز قوي لكل «قبائل» تونس المعاصرة والتي يبدو أنها قد تكتلت كلها من اجل مزيد الابتزاز والإضعاف اعتقادا منها أنها بذلك - وبذلك فقط - قد تحصل على بعض المكاسب الإضافية والتفاضلية أيضا ما دامت هذه «القبائل» في صراع ضد بعضها البعض حتى يكون لكل واحدة منها نصيب الأسد أو الاستحواذ الحصري على الدجاجة التي تبيض البيض الذهبي قصد نحرها والحصول على ما يعتقد انه في بطنها دفعة واحدة !
ما الذي تساويه كل صراعاتنا وأوهامنا الداخلية أمام هذا البون الذي يزداد اتساعا من يوم إلى آخر؟ وما الفائدة من الدعوات إلى حل البرلمان أو عسكرة البلاد أو الإعداد لثورة ثانية او انتخابات سابقة لأوانها أو الإبقاء على منظومة الحكم الحالية أو حوار وطني يدعو اليه اتحاد الشغل أو يتبناه رئيس الدولة أو أي حوار مواز.. أو.. أو؟؟ لا شيء او يكاد لان كل هذه الدعوات والمبادرات لا تجيب عن السؤال الجدي الوجيه :
ما العمل إزاء هذا البون الشاسع بين مطالب الناس وإمكانيات البلاد؟ وهل من سياسات عمومية بعينها لتفادي هذه المطالب المتفاقمة ؟
يبدو أننا بصدد إضاعة الفرصة تلو الأخرى لبداية إصلاح جدي لكل منظوماتنا المهترئة وأننا رغم وعينا العام بخطورة الأوضاع لم نع بعد – كل قبيلة على حدة – بنوعية التضحيات والتنازلات التي ينبغي أن نقدم عليها جميعا حتى ننقذ سفينة تونس من الغرق ..
قبيل سنوات قال رئيس النهضة عندما كانت الحركة الإسلامية تحكم البلاد مباشرة، لماذا انتم غاضبون والماء موجود وراء كل حنفية والتيار الكهربائي وراء كل قابس ضوء؟! فهل ينبغي أن نعود بالكلية إلى العصر الحجري حتى ندرك أن بلادنا بحاجة إلى كل أبنائها وبناتها المؤمنين بعلمها ودستورها وشخصيتها الوطنية من اجل الإنقاذ الجماعي بنزع كل دعوات الفتنة والاحتراب الداخلي وبالعمل الجاد والمنتج والمبدع لخلق الثروة ولتوفير الحد الأدنى من الرفاه المشترك للجميع ؟ هل ينبغي أن تحل بنا كارثة عظيمة حتى نتجه نحو الإصلاح، أم مازال فينا بقية عقل وحكمة ؟!
ذلك هو السؤال...
* «Le monde en 2035 vu par la CIA. Le paradoxe du progrès». édition équateurs document. Janvier 2017.