أمام التعادي السياسي المستفحل وتفاقم المطلبيات وصعود الشعبويات وتراجع موارد الدولة: هل مازال بالإمكان إنقاذ البلاد ؟ !

كيف يمكن أن نُوَصِّف الوضع العام للبلاد مع تجنّب التعميم والإغراق في التشاؤم قدر الإمكان ؟

هنالك تناقض أساسي يتعمق من سنة إلى أخرى بين حجم المطالب الاجتماعية لكل الفئات والجهات وقدرة الدولة التوزيعية للإنفاق العمومي .ثم ظهور جيل جديد من المحتجين على سطح الأحداث ،جيل راديكالي في مطالبه وفي طرق التعبير عنها وهو لا يبدو مستعدا لتأجيل إضافي لما يعتبره حقوقه المشروعة .
في مستوى ثان منفصل إلى حدّ ما عن المستوى الأول هنالك استقطابات سياسية حدية وعدائية كما لم تشهدها تونس من قبل فنحن أمام أحزاب وشخصيات منتخبة أولها وزن سياسي واجتماعي هام تتمثل العلاقة بينهما في عداوة قصووية لا تترك للمناطق الرمادية مكانا ،ونحن لا نتحدث هنا فقط على ما يجري أمام أعيننا بين الحزب الدستوري الحرّ والحركة الإسلامية بل بين عداوات ظاهرة وخفية تكاد تشمل كل المكونات الأساسية للمشهد السياسي ونحن الآن بصدد الانتقال من التنافس بين خصوم إلى التنافر بين أعداء يعتقد كل واحد منهم أن لديه القدرة على إلغاء الآخرين والاستفراد «الديمقراطي» بالسلطة ..
وغير بعيد عن هذين المستويين السابقين الصعود الصاروخي لكل التيارات الشعبوية سواء أكانت مهيكلة في أحزاب أو في توجهات سياسية أو ملتفة حول شخصيات يرى فيها أتباعها قادة أفذاذ ملهمين، تيارات شعبوية تسطّح القضايا وتخوّن النخب وتؤمن بخلاص يتوحدّ فيه الشعب بالقائد..
أمام هذه الديناميكية المعقدة للبلاد اليوم نحن لسنا بعيدين اليوم عن نقطة اللاعودة، وهذه النقطة قد تأخذ أشكالا مختلفة كعجز الدولة عن الإيفاء ببعض تعهداتها (صرف الأجور والجرايات في مواعيدها وسداد الديون والحد الأدنى من الاستثمار العمومي) أو خروج بعض الاحتجاجات الجهوية أو القطاعية عن السيطرة المعقولة للدولة أو شلل لعمل مؤسسات الدولة بحكم الصراع المفتوح بين مختلف أجنحة السلطة .. والسؤال الجدي اليوم هو في طبيعة الجدول الزمني لمختلف مظاهر نقطة اللاعودة التي تحدثنا عنها آنفا .
إن الخشية كل الخشية هي في التزامن القريب لكل هذه المظاهر وتضافرها مع بعضها البعض بما قد يهدد بانفجار غير مسبوق يخرج عن سيطرة الجميع .

لاشك لدينا أن أطرافا عديدة فاعلة سياسيا واجتماعيا مدركة لمخاطر هذا الأفق القريب وأننا لا نتوفر إلا على أسابيع أو أشهر قليلة على الأقصى، ولكن ما العمل؟ وهل مازال بالإمكان إنقاذ البلاد من هذا المصير الذي تدفع إليه قوى عديدة بوعي أو غير وعي ؟!
لا وجود لقدر محتوم لا يدفع، والمستقبل لم يكتب بعد وبإمكان أهم قوى وفعاليات البلاد تجنيب تونس هذا السيناريو الكارثي، وهذا ما تعمل عليه منذ أسابيع عدة أطراف من أهمها اليوم الاتحاد التونسي للشغل والذي قدم لرئيس الجمهورية مبادرة للخروج من الأزمة (أنظر نصّ هذه المبادرة بصفحتي 8 و9) ولكن مناخ الاحتقان والعداء المستفحل بين بعض مكونات المشهد قد تفشل هذه المبادرة وتحرمها من حظوظ النجاح الدنيا.

هنالك شروط ضرورية للإنقاذ لا مناص لنا منها لو رمنا تجنيب البلد الأسوأ :
1 - هدنة سياسية ونزع فتيل «الحرب الأهلية» الباردة ووضع الخلافات والصراعات على أهميتها بين قوسين كمبادرة حسن نية من الجميع لإنجاح عمل وطني مشترك لبداية إنقاذ البلاد.
2 - اختيار رئيس الجمهورية بصفة نهائية أن يكون المجمع لكل القوى السياسية والاجتماعية القانونية وان يضع بين قوسين - هو كذلك - اعتراضاته الشخصية والسياسية حتى يكون مفتاح الحل لا عنصرا إضافيا في الأزمة
3 - تحديد أولويات اقتصادية واجتماعية قليلة العدد تبين التزامات كل أطراف العمل من شغالين وأصحاب العمل ووضع خطة تنموية جهوية قصيرة المدى والإصلاحات الضرورية لإنعاش المالية العمومية والهدف هو إيقاف نزيف التداين والعودة إلى العمل بأقصى سرعة وطاقة قصد تحقيق توازنات يتفق بشأنها على مستوى مؤشرات الاقتصاد الكلي وانجازات تنموية قابلة للتقييم العلمي وذلك في أجل لا يتجاوز ثلاث سنوات ..
وليكن واضحا للجميع أننا مدعوون إلى صنف معيّن من التقشف ومن ضبط قوي للإنفاق العمومي مقابل تسريع كل محركات النمو وانخراط أقوى لأرباب العمل والكف عن إيقاف الإنتاج وعن حلول التشغيل المغشوشة..
من حقنا ،بل ومن واجبنا، أن نحلم بهبّة مواطنية تجنبنا الكارثة وتفتح أمامنا الطريق الصعبة للإصلاح وللنهوض قصد إعداد شروط إمكان الازدهار المشترك ..
في الأثناء بإمكان الجميع السير قدما نحو الهاوية اعتقادا من كل جهة قدرتها على الاستفادة لوحدها من مشارفة الانهيار ..
ولكن من يرتهن مستقبل البلاد لربح شخصي أو حزبي أو قبلي قد لا يجد في الأخير سقفا يحميه ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115