تسابق وتلاحق «الرؤساء الثلاثة» الحوار الوطني المستحيل !

من غرائب الأمور في بلادنا حصول شبه إجماع على ضرورة حوار وطني شامل سياسي واقتصادي واجتماعي مع وجود شبه استحالة على قيامه بالشكل الأدنى الذي يستجيب لحوار وطني جامع

قادر على إخراج البلاد من أزماتها المتعددة والمتفاقمة ..

الحاجة إلى حوار وطني لا تتأتى فقط من حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة والتي زادتها مخلفات أزمة الكورونا حدّة ، بل كذلك إلى الصراعات الغريبة التي تشق مختلف أجنحة السلطة وإلى الاستعداء الجذري بين مكونات أساسية في المشد السياسي الحالي ..
الحوار الوطني الوحيد الذي نجح في الماضي القريب للبلاد هو الذي انطلق في صائفة 2013 نتيجة وجود جهة تحظى بمصداقية عالية وبقدرة على تجميع الأعداء ونقصد بها الرباعي الذي رعى الحوار الوطني وأساسا الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية دون أن نغمط حق رابطة حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين ..

اليوم لم يعد بإمكان هذه المنظمات أن تلعب لوحدها الدور الذي لعبته في تلك الفترة الدقيقة من تاريخ البلاد ،فاليوم لدينا سلطات منتخبة لا يمكن القفز على شرعيتها أو على مشروعيتها والمنتظر والمؤمل أن تلعب هذه السلط،وأساسا رئيس الجمهورية، هذا الدور الجامع والرامي للحوار وهذا ما نادت به أحزاب سياسية عدة وكذلك المنظمة الشغيلة ذاتها والتي قدم أمينها العام نورالدين الطبوبي يوم أمس تصور الاتحاد لمحاور هذا الحوار الوطني ولفلسفته كذلك إلى رئيس الجمهورية أملا في أن يطلق ساكن قرطاج هذا الحوار الوطني المرجو ..

قبل ذلك بيومين فقط دعا هشام المشيشي رئيس الحكومة أمام مجلس نواب الشعب إلى حوار اقتصادي واجتماعي تحتضنه القصبة .. وقبل ذلك أيضا اعتبر راشد الغنوشي رئيس مجلس نواب الشعب ،ورئيس حركة النهضة أيضا ، أن البرلمان هو الإطار الطبيعي لأي حوار وطني ممكن ..

لاشك انه من الهام تحديد الجهة الداعية للحوار الوطني بالنظر إلى شرعية هذه الجهة أولا وإلى قدرتها التجميعية والتأطيرية ثانيا ، ومن هذا المنطلق نقول بأن الاتحاد العام التونسي للشغل قد طرق الباب السليم: رئاسة الجمهورية فقط بالنظر لا فقط إلى الشرعية الدستورية والانتخابية لقيس سعيد بل وكذلك لأن الجهتين الأخرتين لا تتوفران على صفة التجميع الضرورية باعتبار أنهما مرتهنتان موضوعيا لحسابات الأغلبية البرلمانية الحالية وأن المعارضات الكثيرة والوازنة لهذه الأغلبية قد تقاطع هذا الحوار وتفرغه بالتالي من أحد أهم أهدافه وهو تجميعه لأهم القوى السياسية والاجتماعية .

ولكن البيان الإعلامي الصادر على مصالح رئاسة الجمهورية يوم أمس اثر اللقاء الذي جمع رئيس الدولة مع الأمين العام لاتحاد الشغل يبين بدوره أن رئاسة الجمهورية لا تريد حوارا يجمع كل الأطراف تحت غطاء «لا حوار مع الفاسدين» وهو ما يعني بصفة شبه صريحة استبعاد حزب قلب تونس وكذلك ائتلاف الكرامة لاعتبارات أخرى ، أي حليفي النهضة في البرلمان، وهو استبعاد لن تقبل به مطلقا الحركة الإسلامية،ثم إذا ما رجّحنا رفض الحزب الدستوري الحرّ لهذا الحوار نكون قد استبعدنا منذ البداية أكثر من نصف نواب الشعب ، أي أننا وأدنا الحوار قبل ميلاده إلا لو كانت النية تتجه إلى التجاوز النهائي لمؤسسة البرلمان وهو ما لا نعتقد أن رئيس الدولة يفكر فيه حتى لو أقررنا بأن الأحزاب لن تكون هي الطرف الأساسي في هذا الحوار فإننا نرجح في صورة هذا التغييب لأكثر من نصف البرلمان أن يفتر حماس المنظمات الوطنية والخبراء ومختلف أجهزة السلطة التي تستدعي لهذا الحوار وذلك لانعدام إمكانية التجسيد التشريعي لمخرجات حوار كهذا .. ثم قد نكون أمام مهزلة من الحجم الثقيل : حوار وطني يدعو له رئيس الجمهورية ويضم أحزابا من المعارضة فقط وحوار مواز يدعو له رئيس الحكومة ولا يضم إلا أحزاب حزامه السياسي فقط .. وتجد المنظمات الوطنية والشخصيات المستقلة ومؤسسات الدولة المدعوة لهذين الحوارين نفسها في وضعية لا تحسد عليها بالمرة ..

المشكلة لا تكمن في الموقف المبدئي الذي عبرت عنه رئاسة الجمهورية «لا حوار مع الفاسدين» إذ لو اثبت القضاء تهمة الفساد على أية شخصية أو شخصيات سياسية فستجد نفسها حتما خارج إطار المؤسسات، ولكن هل يمكن لأحد أن يستثني طرفا منتخبا بتهمة الفساد دون أن يحسم القضاء في هذا ولو بمجرد حكم ابتدائي ؟ فلو عمدنا إلى هذا الأسلوب سيكون من حق كل طرف أن يستثني خصومه بحجة فساد حالي أو سابق، وفي هذه الحالة علينا أن ندعو للصراع والنزاع اللذين يميّزان الخبيث من الطيب لا إلى حوار جامع ولو كان مع بعض الخبيثين وقليلي الطيبة ..
يبدو أننا قد أحرقنا ورقة الحوار الوطني حتى قبل تجربتها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115