من ذبح الأستاذ الفرنسي إلى خطابات ماكرون حول الإسلام والإسلاميين وصولا إلى حملة مقاطعة البضائع الفرنسية: في مخاطر صراع الهويات والأطماع السيـــاسيـــة

كثيرا ما انتقد سامويل هنتغتون صاحب الكتاب الشهير «صراع الحضارات» شرقا وغربا ولكن أحداثا كثيرة جدّت قبل تأليف الكتاب

وبعده تؤكد التشخيص الجيوسياسي لعالم ما بعد الحرب الباردة وتحول الصراع القائم منذ الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الاشتراكي والليبرالي أو «العالم الحر» كما يحلو لأصحابه توصيفه إلى عالم متعدد الأقطاب محور الصراع الأساسي فيه بين كيانات بشرية وتاريخية كبرى يصطلح عليها بالحضارات ..
صحيح أن النخب النيّرة في كل حضارات الدنيا تناضل من أجل عالم تتحاور فيه الحضارات والثقافات والأديان ولكن الواقع المعيشي يفرض علينا الاعتراف بأن الصراع هو الواقع المشهدي المخيف حتى لو قلنا بان المنتمين لمختلف هذه الحضارات يتعايشون يوميا بنسب معقولة من القبول المتبادل .
ولكن يخطئ من يعتقد أن المشاهد العنيفة من صراع الحضارات إنما هي معطيات موضوعية صلبة لا دخل فيها للتوظيف السياسي المحلي أو الجيواستراتيجي.
لنعد إلى أصل المشكلة الحالية ..
شاب شيشاني متطرف يقيم في فرنسا عمد إلى ذبح أستاذ تاريخ بعد أن تناهى إلى سمعة-حسب ما يبدو – أن هذا الأخير عرض في القسم نسخا من الصور الكاريكاتورية حول رسول الإسلام لكي يستشهد بها – على ما يبدو أيضا – في درسه حول حرية التفكير.
هذه الجريمة البشعة هزت مشاعر الغالبية الساحقة من الفرنسيين – بمن فيهم أصحاب الديانة الإسلامية – والغالبية الساحقة كذلك من البشر بمن فيهم مئات ملايين المسلمين في مختلف أصقاع الدنيا ،فهذه الوحشية لا يمكن أن تقبل أو أن نجد لها ولو شبهة حجة يتيمة يمكن أن تبررها أو تقلص من فظاعتها .
للأسف ليست هذه هي المرة الأولى التي يعمد فيها إرهابي اسلاموي إلى ذبح إنسان وذلك بغض النظر عما ينسب للضحية من أقوال وأفعال، فداعش الإرهابي قد قطع الرؤوس واحرق بشرا أحياء (الطيار الأردني) وفي بلادنا ذبح الإرهابيون راعيا صغيرا ..وهذا كله غيض من فيض من جرائم إرهابية تقترفها جماعات باسم الإسلام اليوم كما تقترف جماعات إرهابية أخرى جرائم لا تقل فظاعة أو وحشية باسم ديانات أو عقائد أخرى ..
بالطبع لا يمكن لفرنسا أو لأي بلد آخر حصلت فيه جريمة بهذه البشاعة أن يكتفي بالرد الأمني والقضائي الفردي بل من المعقول جدّا أن يسعى السياسيون والمثقفون والإعلاميون لإعطاء معنى جماعي للرد حول الإرهاب والفظاعة ..ولكن هنا شئنا أم أبينا تدخل أصحاب السلطة – بوعي أو دون وعي أحيانا – للاستفادة القصوى من هذه الأحداث الأليمة ..
كنّا نفهم ونقدر لو كان جاء الرد الفرنسي الرسمي في مستوى القيم الكونية الإنسانية من قداسة الروح البشرية ونبذ لكل عنف وتطرف وإرهاب وأن الحريات الفردية والعامة وأهمها حرية التفكير والتعبير لا تقبل التفاوض تحت أي اسم من المسميات وأن العيش المشترك يفترض احترام المبادئ التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية ويفترض أيضا قبول الآخر المختلف وعدم وصمه أو احتقاره ولكن ينبغي أن نذكر هنا أن الخطاب الحالي للرئيس ماكرون حتى قبل هذه الفاجعة قد اخذ منعرجا جديدا وأضاف إلى قاموسه مفردات لم نعهدها عنده مثل «الإسلام في أزمة في العالم بأسره (l’islam est en crise dans le monde ) وكان ذلك خلال خطاب رئيس فرنسا حول «الانفصالية الإسلامية «يوم 2 أكتوبر الجاري أي أسبوعين قبل ذبح الأستاذ الفرنسي .. وفي هذا الخطاب ذكر الرئيس الفرنسي بلادنا تونس بما هو غير مقبول في الأعراف الديبلوماسية وذلك بغض النظر عن نية القاتل ومقصده ، وفي نفس ذلك الخطاب أعلن الرئيس الفرنسي عن جملة من القرارات ضد «الاسلاموية الراديكالية» ( l’islamisme mondial) وهذه كلها مفردات كانت غائبة في قاموس الرئيس الفرنسي ،لا لغياب الإرهاب الاسلاموي في فرنسا الذي استهدف هذه الجريدة الساخرة «شارلي هبدو» بمناسبة نشرها لبعض هذه الرسوم ذات الأصل الدانمكاركي وقتل جلّ الصحفيين ومصوري الكاريكاتور الذين وجدهم في المقر وكذلك مأساة الباتاكلان والتي ذهب ضحيتها حوالي 130 ضحية في قلب العاصمة باريس ولكن الرد السياسي للرئيس فرنسوا هولاند كان مختلفا آنذاك ورأينا كيف تضامنت البشرية كلها مع فرنسا وذهبت في مسيرة حاشدة عدة قيادات عربية وإسلامية بمن فيهم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ..
الرئيس ماكرون دارس فلسفة واقتصاد وهو يعلم تماما ووزن الكلمات فعندما ألح في كلمة تأبينه للأستاذ الفرنسي على أن فرنسا لن تتراجع عن الكاركاتور بما فيها تلك التي تتعلق برسول الاسلام فهو كان يقدر – فيما نرجح – أن هذه الكلمات ستلقى صدى ايجابيا للغاية عند كل الأوساط المنزعجة من تواجد المهاجرين وخاصة المغاربيين والمسلمين وانه يريد أن يظهر من الصرامة القوية تجاه كل مظاهر «الانفصالية الاسلاموية» بما فيها مظاهر الاختلاف في المأكل والملبس فإن الرسالة سياسية بل سياسوية بوضوح فالانتخابات الرئاسية في فرنسا ستكون بعد سنة ونصف وهو لن يترك هذا الفضاء المعادي للحضور العربي والإسلامي في فرنسا حكرا فقط على زعيمة أقصى اليمين ومنافسته الأساسية في سنة 2022 مارين لوبان ..
ولكن هل تبتعد الدعوة التي أطلقها اردوغان وسوقت لها بكثافة قناة الجزيرة والجماعات الاسلاموية العربية كثيرا عن هذه الحسابات السياسية بل والسياسوية ؟ قطعا لا بل تسعى كل هذه القوى للاستفادة القصوى من بعض جمل الرئيس الفرنسي لتظهر أولا أن كل من استنكر هذه الجريمة البشعة إنما هو من بيادق الإفرنج وأن كل من لا يستنكر ازدراء رسول الإسلام مشارك في «الحرب» ضد «المقدسات الدينية» وان المجرمين الحقيقيين ليسوا القتلة وداعميهم بل من لا يستنكرون هذه الصور الكاريكاتورية وأقوال الرئيس الفرنسي..
ولنا في تونس المثل القوي ، فبعد موجة الإدانة العامة لهذه الجريمة البشعة والاستهجان والتنديد الكبيرين لتدوينة نائب برر فيها هذه الفعلة الشنعاء تحول المناخ الذهني وبسرعة فائقة إلى التجنذ للدفاع عن الرسول ضد الصليبين الجدد وحلفائهم في المنطقة ..
ثم إن المستثمرين في الأزمات وفي صراع الحضارات – شرقا وغربا – أوصلونا إلى مرحلة جديدة «مقاطعة البضائع الفرنسية « اصطفافا وراء دعوة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي أراد أن يضرب عصافير عديدة بحجر واحد، معاقبة فرنسا التي تريد التصدي له في شرق المتوسط ثم الظهور كزعيم العالم الإسلامي في مواجهة الغرب مؤكدا مقولة «صراع الحضارات» كأبهى ما يكون وثالثا دفع قوي للبضائع التركية في كل الأسواق العربية والإسلامية وهذا ما أدركت فرنسا مخاطره ولكن العبارات خانتها مرة أخرى فظهرت في مظهر القوة المهيمنة التي تعطي تعليمات للدول العربية والإسلامية حتى تتدخل ضد حملة المقاطعة هذه..
«صراع الحضارات» لا يختلف من حيث جوهره مع كل الصراعات الجيو سياسية التي هزت البشرية منذ القدم ولكنه يضيف إليها وزن الكلمات وقوة الرموز وسرعة اللعب على العواطف والمشاعر ..
وفعلا .. في البدء كانت الكلمة ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115