أثناء الموجة الأولى في الربيع الفارط كان الجواب الوطني والكوني كذلك : الصحة أولا وأخيرا ،فالصحة لا تعوض بينما يمكننا دوما تلافي العطب الذي يمكن أن يحصل للآلة الاقتصادية ، ولم تجد بعض الأصوات المنادية آنذاك بتعديل ولو جزئي في هذه المعادلة أية آذان صاغية حتى عندما تم تقديم الحجاج على أن لانهيار الاقتصاد آثار سلبية جدا على صحة الناس لم يلتفت أحد لهذه الحجة وأعطيت الأولوية المطلقة للسعي لحماية الناس من تفشي الوباء حتى لو أدى بنا ذلك إلى إيقاف شبه كلي للآلة الاقتصادية..
ففي تونس تم إقرار الحجر الصحي الشامل ولم يصل عدد الحالات المؤكدة المصابة بالكوفيد 19 إلى المائة ..
ولكن بعد ان اتضحت الآثار الكارثية الاقتصادية والاجتماعية - أيضا - لما اعتبر انه إعطاء الأولوية المطلقة للتوقي من الجائحة بفرض حجر صحي شامل وان هذا القرار قد دفع بلادنا إلى انكماش اقتصادي غير مسبوق تجاوز %21 في الثلاثي الثاني لهذه السنة ودفع الى البطالة أكثر من مائة الف تونسية وتونسي، أصبح الحديث عن الأولوية المطلقة للصحة على الاقتصاد وكأنه عبث لا معنى له وقالت كل الحكومات في تونس وفي العالم انه لا سبيل للعودة إلى الحجر الصحي الشامل وانه لابد لنا من التعايش مع الكورونا أي ان نقبل بدفع ضريبة صحية ما مقابل استمرار النشاط الاقتصادي وتم التسويق للفكرة التالية : البروتوكولات الصحية من كمامة وتباعد وتعقيم وغسل اليدين كفيلة لوحدها بتحقيق التوازن المنشود بين استمرار الحياة الاقتصادية والاجتماعية دون تدهور خطير للوضعية الصحية .
ولكن لو استثنينا بعض الدول الأسيوية ذات الصرامة المطلقة أو الوعي المجتمعي الفائق أو الاثنين معا لم تتمكن أية دولة من التعايش المقبول مع الفيروس فتفشت الجائحة بشكل غير مسبوق وتجاوزنا في تونس خلال هذه الأسبوعين الأخيرين وبصفة يومية عدد الإصابات الجملية خلال كامل الموجة الأولى .. وأصبح واضحا للجميع أن تواصل هذا النسق لن تكون له فقط كلفة صحية ولكن كذلك ثمن اقتصادي واجتماعي ضخم للغاية ..
نحن بصدد اكتشاف أن التلازم بين الصحة والاقتصاد في المجتمعات العصرية ليس مسألة خيارات إيديولوجية بل هو من حسن الحوكمة والاستشراف .. فالصحة لا ثمن لها ولكن يخطئ من يعتقد انه لا كلفة لها وانه بالإمكان توفير صحة جيدة ضمن اقتصاد عليل ولا اقتصاد قوي دون استدامة المنظومة الصحية، فالقضية لا تنتمي إلى اليمين ولا إلى اليسار بل إلى حسن التصرف في الموارد المادية والبشرية .
إن من أهم دروس هذه الجائحة عالميا ووطنيا هو ان الدول والمجتمعات الأكثر عقلانية والأكثر انسجاما وإيمانا بالمصير المشترك هي التي تمكنت من التصرف الجيد مع هذه الجائحة ، أما الدول المرتبكة والشعوب التي تفضل الارتجال والفوضى على الانضباط هي التي بصدد دفع الثمن الأكبر صحيا واقتصاديا معا ..
نعيدها للمرة الألف : أزمة تونس الأساسية ليست مسألة إمكانيات مادية بل في غياب الحوكمة العقلانية وفي ضعف الانخراط الشعبي في بناء المصير المشترك ..
قوة الشعوب والدول تقاس زمن المحن والأزمات .