مسبقا العبارات الممجوجة التي ستقال أو ستكتب، وننتظر خطابات الإدانة التي ستوجّه إلى هذا الحزب أو تلك الشخصيات. فهل قُدّر لنا أن نتّخذ نفس الموقف السلبيّ الذي يتكرّر مع كلّ حدث والقائم على إبداء الانفعالات: غضب وصراخ وعويل وبكاء وتحسّر... وتوجيه رسائل التهديد...؟ ألم يحن الوقت لتجاوز موقع المُعبرّين عن الصدمة «مُناسباتيّا» إلى موقع المصمّمين على الفعل في الواقع بدون انقطاع؟ متّى سندرك أنّ السياسات التي وضعتها الدولة لمكافحة الإرهاب والتطرّف وللوقاية من هذا الخطر الداهم قاصرة، وتفتقر إلى النجاعة المطلوبة، وأنّ الجهود التي تبذلها مختلف مكونات المجتمع المدنيّ ذات أثر محدود ؟ ألسنا بحاجة إلى المكاشفة ومواجهة الواقع بكلّ ما فيه من عيوب؟
تعمل أغلب بلدان العالم على إعادة النظر في السياسات المعتمدة لمواجهة الإرهاب والتطرّف وتحرص في كلّ مرحلة، على نشر تقارير التقييم والمراجعات والدراسات المقارنية فتعترف الجهات المسؤولة على وضع السياسات بسوء التقدير، ويقرّ الباحثون والخبراء بالهنات وبفشل المنظّرين وعجزهم عن تقديم الفرضيات الملائمة. وليست هذه الأدبيات الصادرة عن الحكومات أو مجلس الأمن أو المنظمات أو مراكز البحث المختصّة في الأمن والسلام ، والتوقّي من التطرّف العنيف، والجمعيات وغيرها إلاّ علامة دالة على أنّ المجتمعات انطلقت في العمل ثمّ ممارسة النقد الذاتي في محاولة لتعديل التصورات وتصحيح المسار.
أمّا في بلادنا فالأمر مختلف ولا غرابة في ذلك فمنذ هزيمة 67 ونحن نصرّ على ممارسة العمى الإدراكي. سيقول أغلبهم في محاولة للدفاع عن «إنجازاتهم» وذواتهم ضدّ من يعتبرون أنّه يتهجّم عليهم: لقد رصدنا الأموال وصُغنا المخططات وألزمنا الوزارات بالاشتغال وفق الخطّة الوطنية لمكافحة الإرهاب والتطرّف العنيف، وعقدنا الندوات ونظمنا الدورات التدريبيّة. وسيقول آخرون: لقد دخلنا في شراكات دولية وأنجزنا البحوث والدراسات ونظمنّا المؤتمرات الدولية ...
ونقول: وهل قيّمتم هذه الخطط واستمعتم إلى الأصوات الناقدة فحاولتم تعديل البوصلة؟ وهل تابعتم ما يقال حول الخطة التونسية للتوقي من الإرهاب والتطرف؟
لابدّ أن نعترف بأنّ الخطط المنجزة والاستراتيجيات والسياسات سارت على نفس المنوال الفوقي المعتمد ‘قبل الثورة’’ Top and down ولم تنطلق من نقاش قبليّ ومعمّم اختارته القاعدة وفق قراءتها للسياق بل كانت هذه السياسات مُسايرة لتوجهات معولمة فُرضت علينا. ولذلك كلّما طالبنا الاتحاد الأوروبي أو الجهات المانحة باعتماد مقاربة محددة كمقاربة النوع الاجتماعي انقدنا دون أن نتساءل: أما آن للتابع أن يتكلّم وينقد ويبتكر سياساته ؟ ولأنّنا نريد أن نرضي المانحين قبل التونسيين، ونثبت لهم أنّنا نعرف كلّ المصطلحات المعتمدة (...,WPS,PCV, CCSR; NAP)فإنّنا نحرص على إلقاء المحاضرات في الفنادق ذات 5 نجوم ولا يهمّنا الجمهور المستهدف الذي ينتظر الإجابة عن أسئلة تقضّ المضاجع.
ولأنّ أغلبنا يهاب النزول إلى الميدان وإجراء البحوث الميدانية لأسباب يطول شرحها فإنّنا نحلّل واقعنا بالوساطة والوكالة: من خلال دراسات ميدانية انجزت في فرنسا وبلجيكا...ولأنّنا ننظر إلى الدارسين الغربيين بعين الإجلال فإنّنا لا نقرأ ما انجزه البحاثة التونسيون أو العرب ولا نحيل عليهم بدعوى أنّهم يكتبون بالعربية أو أنّ أعمالهم «صعبة» ونفضّل في المقابل أن نقدّم آراء الغربيين فهي التي تضفي «الشرعية المعرفية» وهكذا تتسع الفجوة المعرفية ونغدو غير ملمين بالتحولات العميقة في مجتمعنا.
طوّفوا البلدان التي عاشت بشاعة الإرهاب ستجدون أكاديميين من باكستان وسيريلانكا وأفغانستان ...ينشرون أعمالهم التي انطلقت من استقراء الواقع في ديناميكيته وقلّما تعثرون على تحليل لـ Gilles Kepel...وستجدون جمعيات تأسست في المناطق التي يكثر فيها الاستقطاب تشتغل في التربية والتعليم ودعم القدرات والتمكين وغيرها...همّ أصحابها ليس حضور الندوات العالمية بل قياس أثر فاعليتهم في الوطن.
في اليوم الذي سنقرّر فيه تخليص المجتمع المدني من عدوى ‘السلطة والمال والشهرة’ ونتصدّى لعملية تحويله إلى business سنحصنّ أبناءنا من التطرّف ، وفي اليوم الذي نحرّر فيه المعارف décoloniser les savoirs سنفهم أسباب الظواهر وفي اليوم الذي ستجرى فيه البحوث وفق الكفاءة لا copinage سنعرف الكثير عن التحولات التي يعيشها مجتمعنا ، وفي اليوم الذي ستنتعش فيه صحافة الاستقصاء سنحمي كلّ شبر في الوطن.
إنّ بين المتاجرة بالدين والمتاجرة بمكافحة الإرهاب وصلة فلنتدبّرها حتى نتجنّب الأسوأ.
كلام موجع حول التعاطي مع الإرهاب
- بقلم امال قرامي
- 09:00 10/09/2020
- 2003 عدد المشاهدات
بتنا نتوقّع بعد كلّ عمليّة إرهابيّة، ردود أفعال بعض الفاعلين السياسيين وتعليقات «المحلّلين» والفايسبوكيين، ونعرف