ثمّ إلى أيّ حدّ كانت الردود متماهية مع الواقع السياسي؟
يعتبر عدد من الفاعلين السياسيين(تحيا تونس، حزب التيار الديمقراطيّ...) أنّه لا يمكن التصويت على حكومة لم تتأسّس على البرامج الواضحة. ولكن علينا أن نتساءل: متى كانت الحكومات تتشكّل على أساس تقديم البرامج؟ ألم تكن المحاصصة الحزبية سيّدة الميدان؟ ثمّ متى كان للحكومات المتعاقبة برامج «إنقاذ» واضحة المعالم؟
وذهب آخرون إلى التشكيك في «استقلالية» عدد من الوزراء المقترحين إذ تم الانتقال من وجهة نظرهم، من الانتماء الحزبي إلى الانتماء إلى اتّحاد الشغل أو «القرب» من الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة والصناعات التقليدية، ولكن ألم يكن الوزراء السابقون يعملون تحت «مظلّة» قوّة حزبية توفّر لهم الحماية والدعم؟ ومن ثمّة تغيّرت القوى وظلّ التمشّي هو ذاته.
أمّا حزب النهضة فقد رأى أنّ هذه الحكومة هي «أضعف الحكومات كفاءة وأقلّها استقلالية» دون أن يوضّح المعايير التي سمحت له بإطلاق هذه الأحكام؟ ونتساءل كيف لمن فشل في تأمين الانتقال الديمقراطي أن يحكم على غيره قبل أن يبدأ في العمل؟ ولم يختلف موقف حركة الشعب عن موقف حزب النهضة إذ شكّك القياديون في «الاستقلالية» و«الكفاءة».
ليس غرضنا رصد كلّ المواقف بل التنبيه إلى أنّ تفاعل أغلب الأحزاب مع الحكومة المقترحة لم يتجاوز إصدار المواقف الانفعاليّة أو الهجومية، وكانت الحجج المقدّمة غير مقنعة ولا تعكس نضجا أو تطوّرا، وهو أمر مفهوم فمن لم يقم بتقييم أدائه ومن لم يُقدم على إنجاز المراجعات لا يستطيع أن يفكّر خارج الصندوق: فخسارة الموقع بالنسبة إليه ستؤدي حتما إلى ضياع الامتيازات والمصالح. وليست المواقف وليدة تفكير سياسي ناضج بقدر ما هي ردود أفعال دالة على الاستماتة في سبيل الدفاع عن المصالح الضيّقة.
ويبدو أنّ الفاعلين السياسيين لم يفارقوا وقع الصدمة إذ ظلّوا يتعاملون مع حدث تشكيل الحكومة من موقع الضحيّة التي تحاول أن تبرّر عمليات الانتهاك والسطو والاعتداء. فـ«الرئيس» هو الّذي سعى إلى انتزاع «شرعيّة» الأحزاب، ومنح فاعلين جدد فرصة إدارة المرحلة المفصلية من تاريخ الانتقال الديمقراطي. ولكن هَب أنّ الرئيس سحب البساط من الأحزاب فمثّل بذلك «قوّة تغيير» للمسار السياسي من خلال استبدال «اللاعب السياسي» بـ«المتمكّن في الجانب الإداري» أو «القانوني» فمن وفّر له الفرصة؟ ولِم تحوّل «توزير» السياسيين المتحزبين إلى «ثابت» من ثوابت السياسة، و«معلوم» في السياسية بالضرورة؟
ونذهب إلى أنّنا أمام مرحلة سياسية تغيّرت فيها قواعد العمل وهوّية اللاعبين إذ انتقلنا من المحاصصة الحزبية إلى قواعد جديدة لتشكيل الحكومة وفق توازنات متنوعة تعكس تموقع القوى المؤثرة وانتقلنا من الفاعل السياسي المعروف إلى فاعل جديد مثير للفضول، وهو أمر نحسب أنّه يرضي عموم التونسيين الّذين آمنوا بأنّ «تغيير الوجوه فيه راحة» وهذه الديناميكية الجديدة تتطلّب مزيد التفكّر في التحوّل الدلالي لمجموعة من المعاني: الاستقلالية والكفاءة، وحكومة التكنوكراط، وغيرها ، وتقتضي الوقوف عند أسباب بروز «اللاعب» المحرّك للأحداث والممسك بخيوط اللعبة والّذي باتت تستهويه استراتجيات اللعب. وانطلاقا من هذا التغييرات نقدّر أنّ فشل الفاعلين السياسيين أدّى إلى تحويلهم إلى الهامش بينما احتّل الفاعل الجديد
المركز، ونحسب أنّ كلّ فعل تمركز يستند إلى مشروع هيمنة تظهر في لبوس مختلف عن السائد والمألوف.
تغيّرت وجهة المسار الانتقالي بتغيّر هويّة الفاعلين، وظهرت اعتبارات وتصوّرات جديدة تريد أن تزيح الفاشلين من المشهد، وتمنح فرص التمكين لمن هم أكثر قدرة على التسيير، وهذا يعني أنّ إدارة الوزارة تتطلّب حسن التدبير، والقدرة على التواصل، والتنسيق وفهم القوانين وتقدير الأولويات والعمل الدؤوب لتحقيق المطلوب... فهل انتهى زمن السياسي «الأميّ» و المراوغ والمتلاعب بالمصلحة الوطنية وحلّ زمن العمولين من أجل إنقاذ ما أفسده الآخرون؟