إلى أوسط الثمانينات ..حمادي ساحر الأجيال كما يقال.. ورغم سهولة استعمال بعض الأوصاف في الصحافة إلا أن الفقيد حمادي العقربي لم يكن بالإمكان وصفه بغير هذا الوصف ، فالسحر هو الإبداع الفردي الذي لا يعاد ويبقى خاصا بصاحبه مهما سعى بعضهم لتقليده..
اللوحات الإبداعية لحمادي العقربي لا يمكن أن تصفها الكلمات لأنها مشهدية سحرية بدءا من لمس الكرة نهاية إلى التمريرة أو التسديدة مرورا بالمراوغة وفتح اللعب وتوفير الحل الذي لم يكن يفكر فيه أحد..
لا نريد الدخول في جدل، من هو أفضل لاعب كرة قدم على الإطلاق في تونس؟ فالحكم هنا لا يمكن أن يكون موضوعيا فحسب، ثم لمعيار الأفضلية أبعاد شتى منها حمل الألقاب والتتويجات والتأثير على نتائج المباريات ولكن ما لا جدال فيه هو أن حمادي العقربي كان الساحر على الإطلاق فوق المستطيل الأخضر وحتى الترابي ..
ولكن فرادة حمادي العقربي لا يمكن أن تفسر فقط بموهبته الكروية إذ نرى بونا شاسعا بين تعامل الجمهور – أيا كانت ألوانه- مع حمادي ومع غيره من اللاعبين الموهوبين..حمادي كان معشوق الجماهير في كل ملعب وهو اللاعب الوحيد الذي يصفق،أحيانا، الجمهور المنافس على مراوغاته أو أهدافه ،وهو اللاعب الوحيد الذي يجعل الجمهور يحنق على احد لاعبيه لو استعمل الخشونة ضدّه ..
ترى لم كانت هذه المكانة الخاصة لحمادي زمن ملاعبته للكرة وبعده ؟ هنالك شيء يُحدس ويمكن أن نصفه بشهامة الموهبة فحمادي كانت تخشاه كل الفرق وكل لاعبي وسط الميدان والدفاع ولكنه لم يسع مطلقا للنيل من معنويات خصم أو الحط من مكانته بحركة أو بنظرة ولم يتوجه مطلقا لجمهور المنافسين بحركة استفزازية أو بما يفيد تعصبا أعمى لألوان فريقه الأم ..
هذا الساحر الشهم هو الذي أحبه الناس ، كل الناس في كل ملاعب الجمهورية وحيثما حلت قدماه أيضا ، ولنا في شهادة سعادة سفير المغرب بتونس أفضل مثال على هذا الأثر الشخصي والكروي الذي تركه الفقيد الكبير ..
كم كنّا نتمنى ألا يثير رئيس حكومة مستقيل في الأيام الأخيرة من عهدته كل هذا الجدل والسجال حول عزمه تسمية الملعب الاولمبي برادس باسم حمادي العقربي، ولكن كم كنّا نتمنى من بعض مواطنينا ألا يغرقوا في الأغدرة الناتنة للجهويات كالقول: كيف نفرض على أندية العاصمة اللعب في ملعب يحمل اسم لاعب سابق بالنادي الصفاقسي ؟ وكأن العاصمة حكر على أبنائها فقط وممنوعة على كل أبناء الجمهورية !!!
من المؤسف جدا أن تكشف وفاة أحد أهم رموز الرياضة في تونس عن عمق الأزمة الأخلاقية الحادة التي تعيشها بلادنا وعن هذه الانقسامات القاتلة جهويا واجتماعيا وفئويا ومهنيا .. وكأننا في جملة من الكانطونات لا نخرج منها إلا بإذن أصحاب الكانطون المجاور ..
الغريب المفزع في بلادنا هذه رفضنا شبه الجماعي لكتابة مروية وطنية جامعة تتجاوز الجهات والفئات والاختيارات الفكرية والسياسية والانتماءات الفئوية بكل أصنافها، فمهمة أبطال الملاحم هي إعطاء هذا الرابط الوطني وهذه الذاكرة الجماعية وجملة من القيم الإيجابية التي ميزت سيرة أي بطل،وفي وضعية الحال الإبداع إلى حدّ السحر والتواضع والشهامة والعطاء دون حساب فيهتف الجميع باسمك ولكن تكتشف في لحظة ما أنهم يريدون دوما تحجيم الصورة والمثال واعتبار البطل الوطني مجرد أيقونة جهوية وأن أقصى ما تطمح إليه ذاكرته هو تسمية ملعب في جهته الأصلية باسمه فقط لا غير.
ترى لو أنشانا ملعبا عظيما بعد خمسين سنة في تونس الكبرى يتسع لمائة ألف شخص وأردنا أن نسميه باسم النجم الأول في ملحمة الأرجنتين عبد المجيد الشتالي، فهل سيقول أبناؤنا أو أحفادنا صحيح أن الشتالي هو أفضل ممرن وطني على الإطلاق وانه قاد ملحمة فعلية في أواسط سبعينات القرن الماضي أدت بنا إلى ما نعرفه في الأرجنتين .. ولكنه من سوسة ومن فريق النجم الساحلي فكيف نسمي باسمه ملعبا في العاصمة ؟ !
إنه الانحدار الذي لا يتلوه انحدار وتغذية نعرات نقول للأمانة أن المساهمين فيها من كل الجهات بلا استثناء إما نتيجة نظرة استعلائية متوارثة عند بعض جهات المناطق الساحلية في نظرتها للجهات الأخرى أو رغبة في التشفي والانتقام من الجهات «المحظوظة» في نزعة جهوية معكوسة لا تقل خطرا على وحدة المجتمع من سابقتها ..
غريب أن يتحول اسم حصل حوله إجماع في حياته الرياضية وبعدها وفي مماته أيضا إلى موضوع لنعرات جهوية لم تتمكن من كبح جماح نزواتها ..
ترى هل نعود الى الرموز الوطنية الكبرى لنتثبت في مواطن نشأتها ..؟ الحبيب بورقيبة والمنجي سليم وفرحات حشاد والطاهر الحداد ومحمد علي الحامي وأبي القاسم الشابي.؟!
لعل بلادنا كانت ارحم منذ عقود في هذا المستوى بالذات وإلا كيف نفسر إلى حدّ الآن غياب معلم كبير باسم الشهيد محمد البوعزيزي أو متحفا ضخما يخلد شهداء الثورة ؟ !
لقد كان حمادي كبيرا ساحرا خارقا للعادة.. سحرنا جميعا أبناء الجنوب والشمال والشرق والغرب ..والآن بعد أن ووري الثرى فلتتنازعوا عن الأسامي والمسميات فذلك لن يضيف لحمادي شيئا ولكنه ينقص من احترامنا لأنفسنا الشيء الكثير ..
«حمـــــادي .. حمــــادي ..»
- بقلم زياد كريشان
- 08:53 25/08/2020
- 2242 عدد المشاهدات
«حمادي ..حمادي» كان هتاف عشاق النادي الصفاقسي خاصة والفريق الوطني عامة على امتداد حوالي 15 سنة من أول سبعينات القرن الماضي