أم لا؟ وبأي توازنات (حزام سياسي) أم حكومة «تكنوقراط»؟ وما معنى الانتخابات إن لم يحكم الفائزون (أي الأحزاب) بعدها؟
نفس السؤال يعود اليوم أثناء قيام هشام المشيشي بالمشاورات من أجل تشكيل حكومة جديدة ولكن السؤال الأهم في نظرنا بعد حوالي عشرية كاملة من حكومات عديدة متعاقبة هو التالي: هل أن أحزابنا (كل أحزابنا) جاهزة اليوم لحكم البلاد أم لا؟ والجهوزية هنا لا تعني فقط الاستعداد الذاتي والكفاءة الشخصية للمتحزبين بل وفي انسجام هذا العرض الحزبي أيا كان شكله، مع قدرة فعلية على الحكم بما هو حسن إدارة الشأن العام والمقبولية المجتمعية الضرورية لهذا الحكم عندما تمارسه الأحزاب..
قد يعتقد بعضهم أن الأحزاب ليست سواسية في هذا الأمر وأن منها من له ثقافة الحكم والقدرة عليه بينما يغرق البعض الآخر في الأحلام اللذيذة للأيديولوجيات المتهالكة.. قد يكون هذا الرأي صوابا لو نظرنا إليه فقط من داخل منظومة الأحزاب الحالية ولكن عندما ننظر إليه من خارجها نلاحظ حقيقة بسيطة ما فتئت تتأكد كلما سبرنا آراء الرأي العام في تونس: الثقة في الأحزاب منذ سنوات عديدة ضعيفة للغاية إذ لا يثق فيها بقوة سوى نسبة متدنية للغاية وهي في معدل 5 ٪ تقريبا وذلك بصفة قارة ومستمرة وحتى لو اعتمدنا مؤشر الثقة الاجمالية (الثقة الكبيرة + الثقة النسبية) والتي ننشرها شهريا في الباروماتر السياسي الذي تعده مؤسسة «سيغما» بالتعاون مع «المغرب» وذلك منذ جانفي 2015 نلاحظ
أن اجمالي الثقة عادة ما يكون تحت 20 ٪ أي أن أربعة أخماس التونسيين لا يثقون كثيرا أو نسبيا في منظومة الأحزاب بغض النظر عن الحزب أو الائتلاف الحزبي المخصوص.. وهذا هو العنصر الأساسي - من بين عناصر أخرى - لفشل كل حكومة حزبية وذلك أيا كانت ثقة التونسيين في صاحب القصبة، فالحكومة الحزبية إذن تجد نفسها في موضع الريبة حتى قبل أن تبدأ في ممارسة الحكم وبما أن الأخطاء تتراكم حتما بعد الممارسة تصبح البلاد في طريق مسدود وفي أزمة سياسية مفتوحة مع كل حكومة حزبية جديدة أسابيع قليلة بعد ارسائها..
نضيف عنصرا أساسيا إلى هذه المعطيات الهيكلية وهو عدم اقدام كل من ساهم في حكم البلاد إلى حدّ اليوم على الاصلاح الفعلي خوفا من ردة فعل الرأي العام وبالتالي من خسارة الانتخابات القادمة إذ أصبح الاصلاح في بلادنا بمثابة العملية الانتحارية التي تتصدى لها كل القوى الظاهرة والخفية في المجتمع لأن الاصلاح يخرج الجميع من منطقة الرفاه التي اعتادها حتى لو كانت هذه المنطقة دلالة اضافية على بؤس الحياة والسياسة في آن.. فتلجأ الحكومات ذات الطابع الحزبي الواضح إلى التلويح بشعارات الاصلاح وبما يعجب نرجسية الرأي العام دون القدرة على خوض غماره الحقيقية ومجابهة معارضيها هذا بالاضافة إلى عدم انتاج كل الأحزاب ذات التمثيلية البرلمانية المهمة نسبيا تصورات تفصيلية للاصلاحات الضرورية للبلاد.. كل هذا يجعل من الحكومة الحزبية وعلى عكس ما يُعتقد عاجزة، اليوم، على الاقدام على الاصلاحات الضرورية التي قد تصدم جزءا من ناخبيها المفترضين.
ونضيف إلى كل ما سبق عزوف كفاءات وطنية كثيرة وفي ميادين متعددة اقتصادية واجتماعية عن المشاركة في حكومة تتحكم فيها القيادات الحزبية مما يفقد البلاد، في حال تشكل حكومة حزبية، قدرات وخبرات لا غنى عنها اليوم.
أما الأساسي في وضعهنا الراهن فهو في المهمة الجوهرية للحكومة القادمة كما أعلن عنها المكلف بتشكيلها هشام المشيشي هو ايقاف النزيف أي في النهاية حزمة من الإجراءات بعضها لا شعبي بالتأكيد ولا نعتقد أن حزبا برلمانيا واحدا قادر على تحمل تبعات سياسات انقاذية جديدة اليوم.
هل يعني هذا أن حكومة كفاءات مستقلة هي الحل بإطلاق؟ نعم ولكن في حالة وحيدة: برنامج انقاذ واضح وبسياسات عمومية معلنة قبل نيل الثقة لا بعدها وتجنيد أفضل كفاءات البلاد لانجازها.. حكومة لا تعادي الأحزاب والبرلمان ولكنها لا ترتهن لحسابات الأحزاب ولتوازنات البرلمان.. حكومة تُحاسب وتُراقب وفق البرنامج الذي تكون قد أعلنته وتعطى لها فرصة بسنتين على الأقل لايقاف النزيف ولارجاع التوازنات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى للبلاد إلى منطقة الاستقرار وتشرع من يوم تنصيبها في القيام بالاصلاحات الضرورية حتى تتجنب البلاد الافلاس وحتى تكون الدولة قادرة على الايفاء بكل تعهداتها.. ويقيننا أن حكومة غير متحزبة قد تجد صعوبات أقل بكثير من حكومة سياسية متحزبة في هذا النهج الاصلاحي الصعب، ولكن يبقى المحدد الأساسي هو القدرة على الانجاز الفعلي لا على ترصيف الخطابات الشعبوية التي قد ترضي غرور أصحابها ولكنها لا تصلح شيئا في واقع البلاد المأزوم.
هل يعني هذا أننا لا نحتاج إلى الأحزاب في حياتنا الديمقراطية؟ لا وألف لا فلا ديمقراطية دائمة ومستقرة خارج الارادة الفعلية للناخبين في الصندوق ولكن منظومتنا الحزبية تحتاج إلى اصلاح شامل وإلى مراجعة جذرية لتأطير المواطنين وكفاءات البلاد وهي محتاجة إلى التدرب على التصرف في السياسات العمومية بدءا من الحكم المحلي وصولا إلى المركز.. ولا ننسى أن البلاد مقبلة على انتخابات جهوية يفترض أن تجرى في 2021 أو 2022 على الأقصى ثم ستليها انتخابات بلدية عامة في 2023 وهذا ما سيسمح باستكمال هندسة الحكم المحلي الموجودة في الدستور من البلديات إلى الجهات وصولا إلى الأقاليم، والذي يريد أن ينجح غدا في تسيير الدولة عليه اثبات كفاءته في تسيير بلدية أو جهة أو اقليم قبل هذا.
كلنا ندرك أن وضع بلادنا صعب للغاية وأن القادم سيكون عسيرا جدّا وأن من شروط النجاح عدم نقل خلافات وصراعات الأحزاب إلى مؤسسات الحكم الأساسية في انتظار حصول الترشيد الضروري لادارة الخلافات والاختلافات بصورة عقلانية.
في كلمة واحدة: الابتعاد الوقتي للاحزاب عن الحكم المركزي اليوم هو الشرط الوحيد الكفيل بارجاعها غدا إلى دورها الطبيعي في قيادة البلاد بعد أن تكون قد استعادت ثقة الناس فيها وبرهنت على جدارتها في قيادة البلاد واقلعت عن ثقافة الغنيمة، أما أصرارها اليوم على التواجد في السلطة التنفيذية بنفس آليات المحاصصة الحزبية فسيكون مدمرا لها وللبلاد كذلك.