وقبيحها، بدأت تظهر لنا الطرق السالكة إلا ويرتدّ البناء وتتشتت الجهود ويطفو الزبد من جديد على السطح ونكتشف عدم قدرتنا على المراكمة والتجاوز في ذات الوقت..
تفاجئنا تونس أحيانا بأجمل وأعظم ما فيها : تضامن ومسؤولية والتركيز على «الأهم قبل المهم» كما حصل ذلك في الأسابيع الأولى بعد انتصار الثورة التونسية وإبّان انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ثم الحوار الوطني والانتقال المحكم والسلس للسلطة بعد كل انتخابات وتجاوز وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بثبات وأخيرا أزمة الكورونا في المقاومة والاستباق ..وكذلك النجاح أحيانا في التصويت بأغلبية كبيرة على قوانين هامة ذات منزع أخلاقي رفيع وتبشر بتأسيس قواعد العيش المشترك على قواعد صلبة كتجريم العنف ضد النساء وتجريم العنصرية وأخيرا قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني..ولكن هذه النقاط المضيئة تجد نفسها عادة حبيسة لمسارات سيئة وسيئة للغاية وكأننا نعمد إليها لرفع الملام فقط لا غير ..
مشاكلنا هامة ولاشك وأزمات مختلف منظوماتنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية أضحت هيكلية ولكن كل ذي عقل سليم يدرك أن الحلول ممكنة وأن تأسيس بدايات الرفاهية المشتركة المؤسسة على اقتصاد ناجع ومدمج للفئات والجهات أمر متاح وأن ضخ الذكاء والتفوق والتميز في التعليم والتكوين المهني ومنظومات الإنتاج كلها أمور في متناولنا وكفيلة بأن تشكل حلما جماعيا يحشد حوله كل الطاقات والجهود..ولكن – لأن في الأمر لكن – يبدو أن نخبنا تلتذ بتعميق الجراح وتسجيل النقاط وتغليب الأوهام والأنانيات الفردية والفئوية والحزبية على ما هو جامع وموحد للوطن ..
سوف تتحمل النخب السياسية ، كل النخب السياسية الحاكمة والمعارضة، الجزء الأكبر من تردي الأوضاع لانها لم تحرص بصفة جماعية على ان تكون فوق كل الشبهات ..أن تجمع على ما يشبه الرهبنة السياسية لخدمة البلاد لا ان تحرص فقط على المصالح الآنية وان تنغمس في حرب التموقعات ..
توصيف واقع البلاد واضح إلى حد بعيد : كل منظوماتنا تحتاج إلى إصلاح شامل قوامه العمل وعقلانية التصرف والتنمية المتوازنة والمستدامة ..صحيح اننا لسنا متفقين على سبل الإصلاح ما بين نظرة اقتصادوية لا تأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي للتنمية وبين تصورات طوباوية تعتقد أن التوزيع العادل للثروة كفيل لوحده بحلّ كل المشاكل وذلك بغض النظر عن الشروط الفعلية لخلق هذه الثروة وتنميتها والارتفاع بها في سلم القيم ..
هذا هو وضع البلاد منذ عقد من الزمن تقريبا ولكن ما أضافت إليه النخب السياسية (كمنظومات حزبية لا كأفراد) هو بحثها شبه الوحيد عن الحكم أو على البقاء فيه بكل ثمن وصياغة التحالفات الداخلية وأحيانا الخارجية من اجل الاستقواء أو خلق شروط الاستقواء والانتصار ..أي أن الزبد السياسوي هو الأساسي لجل الطبقة السياسية وهذا يتجلى عندما يغيب الوعي الجماعي الموحد بأهم ملفات الإصلاح ، إذ تحولت السياسة عندنا إلى نوع من لعب الورق جوهرها الأوحد هو تسجيل النقاط على الخصوم ولذلك اعتقد كل الحكام الجدد أن الخلاص سيأتي منهم وأنهم سيحدثون «قطيعة» ايجابية، فلا حصلت القطيعة ولا جاءنا الخلاص.
لا وجود لحلول كثيرة لاخراج البلاد من هذا النفق ، فنحن نحتاج إلى قيادة سياسية وطنية فوق كل أصناف الشبهات ومقرة العزم على بداية الإصلاح الفعلي مهما كانت الكلفة السياسية لهذا النهج .
اليوم لا يمكن أن ننكر الوضع الغريب الذي تعيشه الحكومة بعد خروجها مباشرة من أزمة الكورونا عندما أثيرت شبهة تضارب المصالح لرئيس الحكومة وإبرام مجمع شركات لصفقة مع الدولة في افريل الفارط (الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات ) لرئيس الحكومة أسهم فيها .
اليوم نحن أمام اتهامات من جهة وتأكيد رئيس الحكومة على براءته الكلية من جهة أخرى ، والآن هنالك هيئات رقابية وبرلمانية وقضائية تبحث في هذه الشبهات والتثبت في كل تفاصيل العملية قصد الوصول الى توصيف موحد حول ما حصل ..ولكن في الانتظار سيزداد المناخ العام تعكرا وسوءا وستتكاثر محاولات الابتزاز او التوظيف او الاستفادة السياسية من كل
ما حصل .
كنا نعتقد أن انتخابات خريف 2019 ستقطع مع المرحلة الانتقالية المتسمة بالتذبذب وبفقدان البوصلة الوطنية الموحدة ولكن حصل ما كنا نخشاه منذ سنة : عدم قدرة هذه النخبة السياسية على حكم البلاد لا لنقص الكفاءات بل لعدم تلاؤم المنظومة الحزبية اليوم بصفة عامة مع مقتضيات حكم البلاد وإصلاحها في هذا الظرف الدقيق .
يعاني الانتقال الديمقراطي اليوم صعوبة جمة للتحول إلى ديمقراطية مستقرة مؤسسة على اقتصاد نشيط ..
المسألة في رأينا تتجاوز بأشواط المستقبل الشخصي والجماعي للحكومة اليوم ..