التداين الداخلي بدلا من التداين الخارجي .. التقشف في النفقات .. «إتاوات» جديدة على رأس المال .. تغيير حوكمة المؤسسات العمومية وإيقاف خسائرها .. حكومة الفخفاخ والمنعرج الاقتصادي

لو توقفنا عند لبّ التصورات التي قدمها يوم أول أمس رئيس الحكومة الياس الفخفاخ في حواره على قناة «التاسعة» وإذاعة موزاييك

مع الزميل بوبكر بن عكاشة لرأينا الإعلان الواضح عن منعرج اقتصادي الذي قوامه عنصران أساسيان : التقشف في نفقات الدولة وإيقاف نزيف خسائرها في المؤسسات العمومية من جهة وتوجه إلى حشد المزيد من الأموال من السوق الداخلية إما عبر الاقتراض الكلاسيكي من البنوك أو بواسطة فرض نوع من الإتاوات الجديدة على رأس المال .
وفي الحقيقة لم يكن هذا المنعرج نتيجة أزمة الكورونا أساسا بل كان سابقا لها وقد أعلنه صاحب القصبة في أول خروج إعلامي له على أعمدة جريدة المغرب يوم الأحد 8 مارس الماضي.
لقد كان الشعار المعلن للحكومة الحالية هو «الدولة الاجتماعية» ولكن يبدو أن الأمور كانت واضحة في ذهن رئيسها منذ البداية : الوصول إلى «الدولة الاجتماعية» يمّر حتما عبر عقلنة التصرف في الموارد المادية والبشرية للدولة، أي بعبارة أخرى لا يمكن للدولة أن توزع ثروة لم يتم خلقها بعد هذا لم يكن واضحا – فيما يبدو- عند العديدين الذين ساندوا منذ البداية الياس الفخفاخ وحكومته «الاجتماعية» .
لاشك أن أزمة الكورونا قد وفرت حجة قوية لهذا المنعرج الاقتصادي بل وقد تظهره كالاختيار الوحيد الممكن اليوم ، ولكن من المهم أن نعلم أننا أمام حجة إضافية ليس إلا..
التقشف في الإنفاق بوقف باب الانتداب في الوظيفة العمومية وتحديد طرق صرف المنح والساعات الإضافية والتلويح بإمكانية التقليص من أجور الموظفين ومن جرايات المتقاعدين لو استمر الوضع على ما هو عليه وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية - بما في ذلك التفويت الكلي او الجزئي فيها- كل هذا يصنف في خانة الإجراءات «الليبيرالية» في بلادنا، بل الليبرالية المتوحشة، وحتى يتجنب الياس الفخفاخ قدر الإمكان هذا «الوصم» إيمانا أو حسابا لا يهم لجأ إلى جملة من الإجراءات الهدف منها إجبار المؤسسات البنكية والمالية ورجال الأعمال ،والأثرياء عامة، على دفع جزء من فاتورة الترشيد والتقشف هذه عبر تأجيل خلاص الديون الداخلية للدولة وفرض ضريبة إضافية بـ%2 لسنتي 2020 و2021 على المؤسسات البنكية والمالية وإخضاع مداخيل إيداعات رؤوس الأموال بالبنوك لخصم من المورد بنسبة %35كلما كانت نسبة الفائدة أعلى من نسبة فائدة السوق النقدية ناقص نقطة ثم بإصدار قرض رقاعي القيمة الاسمية للسهم الواحد مائة ألف دينار وتكون مدة السداد بعد عشر سنوات وبنسبة فائدة بـ%4 اي دفع بعض الأثرياء أو جلهم إلى نوع من «التبرع» عبر هذا القرض الرقاعي التضامني ..
وهكذا تكون الحكومة قد ضغطت على الجميع وزاوجت بين «الليبرالي» و«الاشتراكي» ، بين الضغط على الأجراء والقطاع العام وضغوط مالية إضافية على الأثرياء والمنظومة البنكية والمالية ..
يبقى الآن أمران أساسيان: التناغم الداخلي لكل القرارات أو لتلك التي ستلحق بها ولاشك في قانون المالية التكميلي الذي سيقدم خلال هذا الشهر إلى البرلمان ثم في القدرة العملية على تنفيذ كل هذه الإجراءات يضمن إنقاذ الاقتصاد من الانهيار.
السؤال الأساسي هنا هو هل سيثق أصحاب المال والعمل في قدرة حكومة الفخفاخ على إنقاذ اقتصاد البلاد ؟ لو حصلت هذه القناعة يكون صاحب القصبة قد ربح جزءا هاما من رهانه أما لو انكمش أصحاب المال والعمل واعتبروا أنهم ضحية لابتزاز جديد هنا ستضعف كثيرا حظوظ هذه الخطة الإنقاذية ولن تكون النتائج متناسبة مطلقا مع ما هو منتظر منها ..
أما الإشكال الثاني ، ولعله الأهم الآن، هو مدى «حسن» تقبل هذا المنعرج من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل وكل حركات الاحتجاج الاجتماعي ،فهل سيقبل من وعدوا بسخاء «الدولة الاجتماعية» بهذه الوصفة التي تطلب المزيد من التضحيات من فئات نعتقد أنها صبرت كثيرا وانه قد عيل صبرها؟
ما يحسب لالياس الفخفاخ انه لم يختر المخاتلة والمهادنة ولجا إلى المصارحة والوضوح حول اختياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضا حيث أغلق الباب بصفة نهائية أمام مناورات رئيس حركة النهضة وصحنه المشروخ في توسيع ائتلاف الحكم مؤكدا انه ليس مدينا لأحد أو سجينا لأية اختيارات أو أجندات لا يضعها هو لنفسه..
جميل أن تكون حرّا ..ولكن هل يكفي هذا لربح معركة تكسرت على أعتابها أسنان كل سابقيه ؟
ملاحظة أخيرة: لقد اقر رئيس الحكومة بامتلاكه لأسهم في شركتين أو ثلاث (في حدود %20) وهي تتعامل مع الدولة وأكد بأن هذا يوجد فيه تضارب مصالح، وبالعودة إلى القانون عدد 46 لسنة 2018 والمتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح أن المنع (الفصل 17) لا يتعلق الا بعضوية «هياكل التسيير والمداولة للشركات الخاصة» وان الفصل 18 ينص بوضوح بأنه على المعني بالأمر تكليف الغير بالتصرف فيها (الأسهم والحصص) يعني انه لا إشكال من حيث القانون في امتلاك وزير لأسهم أو حصص، ولكن لو رام رئيس الحكومة فعلا قيادة البلاد إلى إصلاحات فعلية وضد رغبات وعادات ومناطق رفاه عديدة وقوية، ألا يكون من الأجدى أن يقطع علاقة كليا بكل ما من شانه أن يشوش على سياسته ؟
لاشك أن هنالك بعض الإجحاف لكل من جاء للمسؤولية الحكومية من بوابة النشاط الخاص ولكن نموذجية ومثالية المسير الأول مطلوبة اليوم،فهل كان جند طارق بن زياد يقبلون بخوض حرب بعد حرق سفنهم كلها لو اختص قائدهم بسفينة تنقذه من الهزيمة والغرق ؟
جميل أن يصارحنا رئيس الحكومة بما يملك، وأجمل منه أن يتخلص نهائيا من كل شبهة حتى لو سمح بها القانون ونظمها ..فالحروب تربح كذلك بالقدوة الحسنة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115