الشباب والحكومة وثنائية: المركز والهامش

زمن «الكورونا»... تعطّلت فيه مبادرات وقوانين ومشاريع وأجّلـــت معــارك سياسية ومساءلات ومحاسبات وتحركات احتجاجية،

واستعملت فيه خطابات الترهيب بخطر انتشار العدوى إن تمّ القرب الاجتماعي في ساحات الاحتجاج وتلامست الأيادي والتقت الساق بالساق ... زمن «الكورونا» منح فرصة ثمينة «للحكومة الجديدة» حتى ترتّب أولاوياتها وتحجب «عوراتها». ولكن دوام الحال من المحال فها نحن اليوم أمام مرحلة «ما بعد الكورونا» لنخرج من الستر إلى الكشف ونحدّق بملء العين فندرك أنّ الفجوة باتت تتسع يوما بعد آخر، بين أصحاب القرار وفئة الشباب على وجه الخصوص، وأنّ لغة الكلام قد تعطّلت بين الطبقة السياسية الممثّلة للسلطة، وفئات من الشباب الممثّلين لسلطة المقاومة. ولعلّ الاحتجاجات الأخيرة( بتاريخ 1 - 6 - 2020)للمعطّلين من العمل من أصحاب الشهادات أمام مجلس، يفترض أنّه يمثّل مصالح الشعب، خير مثال معبّر عن أزمة التمثيليّة من جهة، وأزمة التواصل، من جهة أخرى. ففي نفس الأسبوع الذي اشتد فيه الصراع بين الكتل البرلمانية من أجل التموقع سياسيا وحزبيا وسلطويا والبحث عن مرئية أكبر تخدم الأجندا الانتخابية القادمة، تحرّك الشباب المعطلون مذكّرين بمطالب رفعت منذ سنوات عديدة ، الحقّ في العمل: «شغل حريّة كرامة وطنية». ولكن كيف كان تعامل الفاعلين مع هذا الحرك الاجتماعيّ؟

التقى الشبّان والشابّات في ساحة باردو لرمزيتها الراسخة في المتخيّل الجمعيّ، لا للتعبير عن معاناتهم فحسب بل لتقديم مبادرتهم وللتفاوض مع من نظر إليهم على أنّهم في خدمة الشعب. ولكنّ النوّاب كانوا في هرج ومرج يحاكمون تاريخ الحركة الوطنية ...وأنّى لمن صوّب اهتماماته لتصفية الحساب مع الماضي أن يفقه مطالب من يعيش إكراهات فرضها الحاضر... وأنّى لمن انشغل بامتيازاته أن يفكّر في حقوق الآخر.

تضيق المساحات التي كانت في زمن التصالح مع المكان 2011، مفتوحة أمام جميع المواطنين ... مساهمة في ترسيخ الحقّ في التعبير والتظاهر، ومولّدة للتفاعل الاجتماعيّ (فرح وغضب،...) تُسيّج ساحة باردو خلال الأسابيع الأخيرة، لتتحوّل إلى ساحة تمثّل امتدادا للبرلمان حيث تبنى السلطة ويعاد بناؤها وفق التوازنات السياسية. وبعد أن كان النائب/ة يبادر بالخروج ليصغي ويتحاور مع الجموع الغاضبة، ويعد بتبليغ الصوت وإيجاد الحلول صار من العسير على من صاروا في المركز التواصل مع من ظلّوا طيلة عقود في الهامش ناهيك أنّنا نجد حاجبا وإدارة تمنع وتحجّر، وسياسات وأوامر تضبط تذّكرنا بآداب الدخول على السلطان. وليس التنظيم الجديد لعملية الدخول إلى البرلمان إلاّ عمليّة فرز بين الناس على أسس مختلفة كالأيديولوجيا والسنّ وغيرها، وهو حجّة على تسّلل الخوف إلى قلوب أغلب الذين احتلّوا المركز : الخوف من الآخر، والخوف على الموقع والمصالح.

لم يُقابل احتجاج الشبّان بعين الرضا، وتمّ التعامل معهم وفق مقاربة أمنية تجعلهم في زمرة غير المرغوب في حضورهم أمام البرلمان، وتبني صورتهم أمام الرأي العامّ فهم المهدّدون للأمن العامّ ولأمن النوّاب. ولكن إلى متى الهروب من مواجهة المشكلة؟ وإلى متى ستستمرّ الأزمة التواصلية لاسيما إذا استحضرنا لقاء رئيس الحكومة مع عيّنة من الشباب خلال نفس الأسبوع؟

لن نجادل أسباب اختيار «الفخفاخ» دعوة فئة من الشباب/ات «الناجح» للتحاور معهم ولكن من حقّنا أن نسأله متى سيقرّر الإصغاء إلى من كانوا «ضحية السيستام» والمناويل الاقتصادية الفاشلة والقرارات الاعتباطية؟ ولم انتهج سياسة إقصاء هذه الشرائح الشبابية والتي تمثّل الأغلبية، من الحوار والتفاوض حول الحاضر والمستقبل؟ إن كانت الفئة الأولى قد شقّت طريقها في عالم الكسب وفق مقاربات مختلفة ومتجاوزة للمألوف (تحصيل الشهادات، وإجراء المناظرات والبحث عن الوظيفة العمومية...) وارتأت أن تفرض وجودها من خلال ابتكار الأفكار والإفادة من الثقافة الرقمية والثقافة الاستهلاكية والثقافة المرئية وغيرها فإنّ الفئة المحتجّة لم تتح لها هذه الفرص لتنمية مهاراتها واكتشاف قدراتها ولم تستفد من سياسات تكافؤ الفرص لأنّها ظلّت طيلة عقد من الزمن، تنتظر الإيفاء بالوعود وتحلم بـ«الغد الأفضل» وتصدّق سردية التأسيس المواطني الديمقراطي لتونس الغد.

ليس انتحار الشباب المطحون أو «الحرقة» أو الإجرام أو الإدمان أو الاحتجاج إلاّ صورة من صور إخفاق الحكومة، في التعامل الجدّي مع ملفّ خطير ظلّ يؤجّل لسنوات وعلامة دالّة على استمرار سياسات «الحقرة» ...
الشباب وصمة عار على جبين كلّ واحد منّا عندما يتجرّأ على رؤية ذاته في المرآة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115