تونس وفرنسا من الاحتلال إلى التعاون: في معضلات البورقيبية والتحديث

رغم ما شاب النقاش البرلماني بخصوص مشروع لائحة ائتلاف الكرامة من تشنج ومن سباب ومن سعي للإساءة إلى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة

ومن سوء تقدير للظرف السياسي وللمصالح الإستراتيجية للدولة التونسية إلا انه كان مفيدا للغاية وسمح بكشف عمق شروخ ذاكرتنا الوطنية وانقسامنا حول أساسيات الهوية الوطنية المعاصرة.

سبق وان قلنا يوم أمس أن الهدف الأساسي من هذه اللائحة ليس طلب الاعتذار من فرنسا عن احتلالها لتونس على امتداد 75 سنة وعن الجرائم التي ارتكبتها في حق بلادنا ..الهدف الأساسي والذي سعى أصحاب المبادرة إلى عدم الإفصاح عنه كلّيا كان محاكمة أهم رموز الحركة الوطنية وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه.. وإشكال ائتلاف الكرامة وبعض «الكراميين» ذهنيا ليس بالأساس مع «استبداد» بورقيبة بل مع ما يمكن أن نسميه بالإيديولوجية البورقيبية القائمة على محاربة فرنسا بأسلحة فرنسا أي من خلال قيمها وثقافتها ومؤسساتها. الإشكال هو مع ثقافة بورقيبة «التغريبية» و«العلمانية» وهي التي تأسس عليها عندهم استبداده السياسي فيما بعد، ولهذا يكون بورقيبة زعيم «الصبايحية» الأمس واليوم، أي كل العمانيين المعادين للهوية «العربية الإسلامية»..

ورغم أن هذا النقاش يعود بنا إلى الدوائر الأولى المغلقة للحركة الإسلاموية في سبعينات القرن الماضي إلا انه هام للغاية لأنه لا يتعلق فقط بماضي تونس القريب ولكن بحاضرها أيضا ومستقبلها ..
في الحقيقة ما يعيبه كل شعبويي اليمين المتطرف في بلادنا على بورقيبة ورفاقه بمن فيهم صالح بن يوسف - الذي يحاولون الاستنجاد به في هذه المعركة - وقيادات الاتحاد العام التونسي للشغل هو أنه لم يحارب فرنسا وكل ما تمثله من قيم فكرية وحضارية وروحية وثقافية بل حاربها سياسيا فقط، بل واستند على جزء هام من قيم المحتل ذاته.

هذا هو لبّ الصراع المخفي يوم أول أمس ، فبورقيبة عند هؤلاء لا يمكن إلا أن يكون عميلا لفرنسا مادام يقر بتأثره بثقافتها وقيمها ولا يكفي لإقناع هؤلاء الكفاح الطويل والمضني لبورقيبة ورفاقه والسجون والمنافي والاغتيالات وتصفية القيادات الوطنية ودعم تونس المستقلة للثورة الجزائرية وإجبارها لجيوش فرنسا على مغادرة كامل ترابنا بعد حرب أزهقت فيها آلاف الأرواح، فهذا كله لا يشفع لبورقيبة وأمثاله من المتغربين المتفرنسين وكذلك «الصبايحية» القدم والجدد بهذا المعنى..

الغريب عند أصحاب هذه الكوابيس الهووية أن احتلال الأمم والشعوب لا يقاس دوما بنفس المقاييس فالاكتساح العسكري للدولة العثمانية لأجزاء من أوروبا الشرقية في العصر الحديث لا يعتبر احتلالا عندهم ولا إذلالا للشعوب مادامت قد قامت به «الخلافة الإسلامية» كما أن جحافل الإرهاب والأسلحة المتدفقة خليجيا ودوليا في فترة ما لتمويليه من أجل إسقاط نظام بشار الأسد لا يثير عند هؤلاء أيّ إشكال مادام الأسد النصيري «عدو الله» وبلغة عصرية عدو الشعب، ونفس الأمر يقال عن الاحتلال الغربي لليبيا منذ سنوات قليلة فذلك أيضا لا يثير إشكالا يذكر بل يوصف حلفاء تدخل الناتو «بالثوار» ماداموا من «إخواننا» ومن المتماهين معنا إيديولوجيا ..
لا نريد أن نقول بأنه لم يكن لفرنسا عملاء زمن الاحتلال او بعده بل ولعل بعض المعادين ثقافيا لفرنسا بالأمس واليوم هم من اشد عملائها وفاء وانضباطا ولكن العمالة هي خيانة للوطن فقط لا غير ومن يناضل ضد الاحتلال بكل أشكال النضال المتاحة من الاحتجاج الى التظاهر إلى المقاومة المسلحة لا يمكن أن يصنف في خانة العمالة أيا كان موقفه الفكري وأيا كانت القيم التي يستند إليها..

والسؤال الجدي اليوم والذي ينبغي لنا أن نحسم فيه بصفة نهائية هو ماهي العلاقات التي نريد بناءها مع فرنسا خاصة وأوروبا عامة اليوم وغدا ؟ وهل أن شراكتنا مع الاتحاد الأوروبي قد جلبت لنا الدمار كما يدعيه البعض أم أنها – على نواقصها – قد مكنت اقتصادنا من التقدم ومن الارتقاء ،ولو النسبي، في سلم القيم؟
أن تعتذر فرنسا عن حقبة احتلالها لبلادنا فهذا مطلب مشروع أخلاقيا وسياسيا حتى وإن لم يطالب به زعماء الحركة الوطنية وبناة الدولة الحديثة ..ولكن على هذه المطالبة أن تنطلق من وعي جماعي بأهميتها وبانخراطها في مسار التعاون مع أهم شركائنا في العالم ،وان هذه الشراكة مدعوة للتعمق والتطور من منطلق سيادة قرارنا الوطني واختياراتنا الإستراتيجية الخاصة بنا ..

لا وجود لشعب لا ذاكرة له ولا قيمة لوطن يحتقر أمجاده دون أن يعني ذلك تقديسا أعمى أو غيابا للحس النقدي وللتبني الواعي لمسارنا التاريخي المتشعب ، ولكن ان نجعل من التاريخ أو من استحضار مجتزإ عقائدي له عنصرا إضافيا لتقسيم المجتمع كما سعت قبل ذلك الحركة الأصولية إلى أن تجعل من الإسلام عنصر فرقة و«فرز» بين المسلمين «الملتزمين» وبين «العصاة المنافقين الكفار» فهذا لن يوفر لنا مطلقا عناصر الفعل في الحاضر والمستقبل ..
لن تنهض تونس إلا متى تصالحت نهائيا وكليا مع ماضيها بحلوه ومره وجعلت من بناء حاضرها ومستقبلها ديدنها الأساسي أما لو أرادت ان تقبع في صراعات الماضي وباسوإ ما فيها فلن تكون لها شوكة أبدا ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115