عرس ديمقراطيّ أم تعرية لواقع متأزّم؟

اعتاد القياديون الإسلاميون تبرير الخلافات والأزمات السياسية التي تعصف بالبلاد بأنّها «طبيعيّة» في «دولة ديمقراطيّة ناشئة».

ومع كلّ مرّة يتأزّم فيها الوضع السياسيّ ترتفع أصوات تُشيد بقدرة التونسيين على تجاوز الخلافات واستمتاعهم بهذا «العرس الديمقراطيّ» الذي جعل التجربة التونسيّة «أنموذجا» و»قصّة نجاح» success story.

غير أنّ منطق الاستدلال قد شهد مؤخرا تغييرا منذ طرح «اللائحة» على النقاش داخل البرلمان يوم 3 - 6 - 2020. فقد حاول قياديو حزب النهضة، منذ تحديد تاريخ جلسة المساءلة مثلما تصرّ المعارضة على تسميتها، توجيه الرأي العامّ الداخليّ والخارجيّ نحو قراءة مخصوصة للمشهد. فما يحدث اليوم لا يمتّ بصلة للعمل الديمقراطيّ ولا يعدّ ضمن «الممارسات الفضلى» (المساءلة، المحاسبة، الرقابة، الحوكمة...) إنّما هو مؤامرة، تخريب لعمل البرلمان، وعمل «غير دستوريّ» وتواطؤ مع أطراف أجنبيّة ،وهو أيضا محاولة للنيل من شخصية «الشيخ راشد والزعيم السياسيّ الناجح». وعلى هذا الأساس لا ينبغي الاحتفاء بانتقادات المعارضة إن هي إلاّ ‘محاولات بائسة’.

أمّا الاستراتيجية الثانية لمواجهة الأزمة فإنّها تقوم على استدرار عواطف الأتباع بالدرجة الأولى، من خلال تفعيل الذاكرة. فالآخر يستمرّ في إظهار العداوة، والكره ويمارس الإقصاء... بل إنّه يمعن في ممارسة العنف اللفظيّ ضدّ «شيخنا» الذي يمثّل رمز الحركة وتاريخها ونضالنا فينعته بالكاذب ويسخر من مظهره ... وما دامت الذاكرة نشطة فإنّ الأتباع الّذين تمرّدوا على قرارات القيادة لا محالة راجعون إلى الحظيرة يحدوهم العزم على الدفاع عن مؤسس حزبهم والانتصار لمشروعهم.

ويقوم إقناع الرأي العامّ الأجنبيّ على إظهار حزب النهضة في صورة ضحيّة البروباغندا التي أطلقتها الأنظمة التي لا تريد للتجربة الديمقراطية التونسية أن تنجح، وليست الدعوات إلى عزل رئيس البرلمان وحلّه إلاّ دعوة إلى إحلال الفوضى والعصف بالاستقرار. وهو ما وضّحه «الغنوشي» لوسائل إعلام مختلفة كالجزيرة ووكالة الأناضول للأنباء وغيرها.
وليس توظيف فكرة «المظلوميّة»، والاستمرار في بناء سردية «الضحيّة’ في تقديرنا، إلاّ مناورة سياسية غايتها التنصّل من التجاوزات والأخطاء وإخراجها في صورة عمليات التشويه المقصود الذي يمارسه الخصوم.إضافة إلى بناء صورة «الشيخ» على أساس أنّه ضحيّة حزب «التجمعّيين/الدساترة» الذين لم يصونوا المعروف ولم يعترفوا بفضل «الشيخ» عليهم فلولا رفضه لقانون العزل لما كان لهم اليوم وجود في البرلمان.

لقد تجلّى التنّصل من المسؤولية في ردّ «الغنوشي» عندما امتنع عن الاعتراف بالتجاوزات التي ارتكبها والصلاحيات التي استولى عليها، والقانون الداخلي الذي تلاعب به لعلمه بما يترتب عن الاعتراف من نتائج. فالاعتراف سنّة معمول بها في أعرق الديمقراطيات وممارسة محمودة تجعل المسؤول الّذي أخطأ يقرّر ومن تلقاء نفسه، تقديم الاستقالة، ولكن عندما يكون «الشيخ» مهووسا بالسلطة فإنّه يكتفي ككلّ طالب يمتحن أمام اللجنة، بأن يختم تدخّله بقطع وعد بمراجعة مواقفه والاستفادة من الملاحظات التي قدّمت له.ومعنى هذا أنّه لا يعتبر أنّ ما فعله خطأ سياسيّ جسيم،وأنّ إدارته للمجلس سيئة بل هو مجرّد تقدير للحاكم/الراعي، وتأويل «العالم» للنصوص واجتهاد يثاب عليه وما دام الأمر كذلك فإنّه لا داعي لاستقالة «الغنوشي» الّذي سيكتفي فقط بمراجعة مواقفه، والمراجعة لا تعني بالضرورة العدول عن الممارسات السابقة ولا تصحيح المسار ولا الالتزام بالقوانين.

لقد أصرّ «الغنوشي» في ردّه على أن يتموقع باعتباره داعية للخير والوفاق والحوار عدّته في ذلك الوصفة السحرية: التوافق. ولكن أنّى لمن رسّخ التدافع أن يكون حليف الحوار والتوافق ؟ وأنّى لمن هنّأ هذا الطرف أن يصلح بين الخصمين؟ إنّ ما أكّدته تدخلات المعارضة أنّ الرجل يتلاعب، يراوغ، يضرب عرض الحائط بالقوانين ... غاية ما يروم فعله: ممارسة السلطة وتحقيق المصالح الحزبية. وليست رئاسة البرلمان في مثل هذه الحالة، إلاّ مطيّة لخدمة مصالح قائد الحزب....

جلسة المساءلة أو ال»تسخسيخ» أو «التكوير» أثبتت أنّ منطق الاستدلال فقد نجاعته وأنّ سردية «الضحية المظلومة’’ما عادت تؤتي أكلها، فما الجديد في جراب النهضة حتى تُسدل الستار على العورات التي بانت «ويا نهار الموت يا نهار الكشفه»؟

ومهما يكن أداء هذا الفريق أو ذاك فإنّ الشعب المطحون لا يعبأ بما آل إليه الصراع ولا يهمّه لصالح من انتهت المباراة... وحدهم المدافعون عن امتيازاتهم وأصحاب المصالح المعبّرون عن اصطفافهم الجديد: إمّا وراء الزعيمة أو «الشيخ» الصابر على الأذى صبر أيوّب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115