وإلى رئاسة مجلس نواب الشعب ثانيا ؟ هل كان ينوي «تتويج» حياته السياسية بمنصب اعتباري في الدولة أم انه كان يستعد لمرحلة جديدة قوامها الانتقال من المناصب الحزبية إلى المسؤوليات الأولى في الدولة من بوابة البرلمان وصولا إلى كرسي قرطاج الذي يسيل لعاب كل السياسيين وذلك أيّا كان موقفهم من نظام الحكم وأيّا كان نقدهم وانتقادهم للنظام الرئاسي وانحرافاته الرئاسوية؟! ..
لسنا ندري بالضبط ماذا كان المخطط الأصلي وماهي التعديلات التي أدخلت عليه خلال هذه الأشهر القليلة الماضية ولكن الواضح والجلي أن رئاسة البرلمان ليست في ذهن الغنوشي وأتباعه النهاية السياسية الرمزية التي قد يطمح لها الكثيرون بل هي بداية ولكنها ليست ككل البدايات .. فهي بداية تتضمن الأهداف النهائية ولا تمهّد لها ..
ما نريد قوله هنا هو أن راشد الغنوشي يعلم علم اليقين أن حظوظه للفوز في انتخابات رئاسية معدومة لا فقط في الدور الثاني بل منذ الدور الأول وبالتالي تكون رئاسة البرلمان المنصب الأقصى الذي يمكنه الطموح إليه ونيله والاستمرار (؟) فيه،ولكن هل يقنع الغنوشي بما قنع به سابقوه وبما يفرضه منطق الدستور ذاته ؟ أي منصب اعتباري في الدولة وتسيير الجلسات العامة وتمثيل البرلمان وطنيا ودوليا ؟ يبدو أن كرسي رئيس مجلس نواب الشعب لا يسع الغنوشي وطموحه للعب دور اكبر بكثير مما يسمح له به دستور البلاد ..
يبدو أن راشد الغنوشي بعد أن كان «زاهدا» في كل منصب يتعلق بالسلطة أصبح لا يقنع إلا بالسلطة العليا وبأن يكون رئيس تونس لا فقط رئيس برلمانها .ومن هنا كانت كل المظاهر «الرئاسوية» في تصرف وسلوك راشد الغنوشي منذ أن تم انتخابه على رئاسة المجلس : ديوان يضاهي ديوان رئيس دولة كله من المقربين وجله من قيادات نهضوية ولاؤها الوحيد لـ«الشيخ» و»ديبلوماسية» برلمانية منفلتة يتصرف فيها رئيس البرلمان وكانه رئيس للبلاد سواء في علاقته بـ«صديقه» اردوغان او بتدخله في الشأن الليبي وتهنئته لصديقه الآخر السراج بانتصار عسكري، وهذا هو المعلن أما الخفي فلا نعلم أسراره بعد ..
هذه الجدلية المعقدة التي تحكم السلوك السياسي لراشد الغنوشي والتي يريد بها تحويل أصوات ناخبي حركة النهضة في دائرة تونس الأولى إلى شرعية انتخابية عليا تفوق او تساوي شرعية الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب وبأغلبية لا نظير لها في كل انتخابات ما بعد الثورة ..هذه الجدلية المعقدة التي تجعله جالسا بجسده في باردو وطامحا بعقله إلى قرطاج تفرض عليه التحكم في الأداة السياسية الوحيدة المضمونة لديه( إلى أي حدّ ؟) وهي الجهاز التنظيمي لحركة النهضة ولكن شاءت صدف السياسة أن يحصل نوع من التزامن بين المسؤوليات السياسية العليا للغنوشي ونهاية عهدته الثانية والأخيرة على رأس الحركة الاسلامية ،ومما زاد في تعكير الوضعية السياسية لراشد الغنوشي بداياته الفاشلة كرئيس للبرلمان التي عمقت الصراعات ولم تخفف منها وجعلته في مدارها جميعا كما اكدت عدم قدرته على لعب دور الجامع كما كان يفعل ذلك الثنائي محمد الناصر وعبد الفتاح مورو رغم انتمائهما السياسي الواضح ..وحالة الاستقطاب تحتد وتشتد من يوم إلى آخر وصورة الغنوشي تهتز باستمرار لدى الراي العام اذ نجده في كل عمليات سبر الآراء الشخصية العامة الأبعد عن قلوب الناس والاقل حيازة لثقتهم..أما داخل المؤسسة التشريعية فالغنوشي لا يحظى الا بثقة الثلث فقط اي النهضة وائتلاف الكرامة اما بقية حلفائه الظرفين كقلب تونس أساسا فهم لا يقبلون بتجاوز الغنوشي لحدود مهمامه ولرغبته في لعب الدور الأول في البلاد كما ان اصوات عديدة ترتفع داخل الحركة الإسلامية لتقول بانه لا مجال لتمديد رئاسة الغنوشي لا بصفة مباشرة او حتى بصفة ناعمة اي بوضع احد ممثلي الحلقة السياسية والعائلية الضيقة لـ«الشيخ» على رأس حركة النهضة.
بعد اشهر قليلة تمكن راشد الغنوشي من تأليب الجميع ضده وجعل من شخصه هدفا سهلا لكل خصومه داخل حركته وداخل الساحة السياسية بصفة اعم وبقدر ما يتشبث بموقع القيادة السياسية والتنظيمية بقدر ما يتركب من أخطاء - وآخرها هذه الصورة المضحكة المبكية التي تجدونها في صفحتنا الأولى – وكل ذلك يصب في حساب خصومه وأعدائه ويضعف من الموقف التفاوضي ومن الوزن السياسي لحركته ..
يوم غد سيكون يوما هاما في البرلمان بمناسبة «الحوار حول الديبلوماسية البرلمانية» وهي جلسة مساءلة مقنعة للغنوشي لنرى فيه بوضوح من مازال مساندا للغنوشي برلمانيا باستثناء حركة النهضة وائتلاف الكرامة والأرجح عندنا ان ايام وأسابيع الغنوشي القادمة ستكون على هذه الشاكلة ..
من مفارقات الزمن ان فوز الغنوشي برئاسة البرلمان قد تكون اكبر كارثة سياسية لشخصه ولحزبه ..