سيـاسـات ارتجـالية

جعلت سطوة زمن كورونا الأزمنة السياسية ، والاجتماعية والاقتصادية، والثقافية والتعليميّة... خاضعة للتعديل

فتحوّل أكثرها من الفضاء العامّ إلى الفضاء الخاصّ أو الافتراضي. وبما أنّنا نستعدّ للمرور من زمن الحجر الصحي إلى استعادة مختلف الأنشطة فقد كان على جميع الوزارات وضع سياسات يفترض أنّها تتلاءم مع مرحلة جديدة وتعكس مدى قدرة سلطة الإشراف على فهم الواقع المعيش.

بيد أنّ المطلّع على ردود فعل عدد كبير من الطلبة والأساتذة الجامعيين ينتبه إلى الفجوة بين من رسم سياسات الرجوع إلى استئناف الدراسة داخل المؤسسات الجامعيّة في أشهر صيفيّة، أي من موقع «البرانيّ» /الخارج الذي يتمتع بالامتيازات ويحتل المكاتب الوثيرة والمكيّفة... ومن هو على أرض الميدان ويحتلّ موقع «الجوانيّ»/الداخل. فالوزارة المعنيّة لم تجب، على حدّ علمنا، عن حيرة الأساتذة والطلبة بشأن اتّخاذ التدابير الصحيّة الكفيلة بحفظ الصحّة. فهل ستتوّفر الخدمات الأساسية كتطهير القاعات وغيرها من الأفضية وتوفير اللثام ومواد التعقيم وغيرها؟ وهل ستكون هناك لجنة طبيّة قادرة على أخذ عيّنات للتحليل؟ وهو أمر مشروع نظرا إلى احتكاك الطلبة في وسائل النقل التي تشكو من هنات كثيرة من سنوات، والتزام هؤلاء بحضور الحصص في المواعيد المضبوطة داخل قاعات تضمّ المئات. جاء في بيان طلبة ضدّ العودة الجامعية: « في الكار في اللواج في التاكسي في المترو في التران في الشارع في الجامعة في المطاعم الجامعية في المبيتات في الأدواش في كل حاجة باش نتشاركو فيها المرض شريكنا الثالث. ما نطلبوش منكم تتمانولنا عودة جامعية طيبة على خاطر ماكمش أهل لا باش تحمونا و لا باش توفرو لنا إمكانيات عودة محترمة».

لم تجب الوزارة عن مدى معقوليّة الالتزام بوضع اللثام لساعات طويلة في حرارة تتجاوز 30 درجة، وفي مدى قدرة الأستاذ على التلفّظ طيلة ساعات لاسيما في اختصاصات الإنسانيات حيث تكون الدروس العامّة في الغالب، غير تفاعلية. ومن ينظر إلى حال الوزراء الذين أسقطوا «الكمامات» في المؤتمرات الصحفية بمن فيهم وزير الصحة ، والوزراء والنواب الذين لم يلتزموا بها ولا بمسافات الأمان أثناء زياراتهم لبعض المؤسسات يتعجّب كيف لمن لم يتحمّل هذا الوضع لبعض ساعات أن يلزم غيره بوضعه طيلة أيام؟

لم تقيّم الوزارة تجربة التدريس عن بعد التي قاومها أغلب طلبة (الآداب والإنسانيات...) أحيانا عن قصد لأنّ فترة الانقطاع عن الدراسة طالت وما عادت لهم الرغبة في الدراسة، وأحيانا أخرى بسبب عدم امتلاكهم اللوحات الالكترونية، والحواسيب والهواتف وأدوات أخرى تساعدهم  على الدراسة. ولم تنتبه الوزارة إلى التقاليد التي ترسّخت في عدد من المؤسسات بعد كلّ عطلة إذ لا يستأنف التدريس إلا متى قرّر الطلبة ذلك....

لم تتفاعل الوزارة مع المشاغل المادية للطلبة التي تمثّل هاجسا أساسيا لديهم. فعدد منهم فقدوا عملهم وما عاد بإمكانهم تحمّل تبعات الإقامة والتنقّل والدراسة بل صار التفكير في القوت مقدّما على استكمال المسار التعليميّ... وبين من هو في المركز ومن ظلّ في الهامش طيلة سنوات مسافة تحجب الواقع المعقّد.

لقد تعّددت مظاهر اللاعدالة الاجتماعية واتّسعت الهوّة بين الطبقات ولم يعد التعليم المصعد الاجتماعيّ الذي يسمح لفئات من العبور إلى مواقع تغيّر مجرى حياتهم قد يعود الأمر إلى أحداث متعاقبة :التحولات السياسية والاجتماعية وإفلاس الدولة وتدمير أغلب مؤسساتها ...ومع حلول الجائحة تحمّس البعض وتحّدثوا عن أوجه المساواة وارتفعت الأصوات «كلّنا في مركب واحد قد تساوى الغنيّ مع الفقير» ولكن آن أوان الخروج من الأوهام والقطع مع اليتوبيا. وليس دفاع الهامش عن نفسه وسعيه إلى حماية حقه في الصحة والوجود والعدالة الاجتماعية رفضا للدولة أو القانون، بل إنّه شكل من أشكال التمسّك بالحقّ الطبيعي في الحياة.

زمن ما بعد الكورونا لدى الفلاسفة والمفكرّين هو زمن إحداث القطيعة مع النماذج القديمة وولادة أنظمة جديدة ... هو زمن الإبصار والتفكّر وفق شروط مغايرة والتامّل في الديناميكية الجديدة وابتكار حلول بديلة ووضع مصطلحات بكر، وتصورات ومناهج... ولكن يبدو أنّ المشرفين على وضع سياسات «ما بعد» لا يزالون متمسّكين بعادات السلف وتصورات ما عادت تنفع ولذلك لمسنا الإرباك وعرض الحلول غير الواقعية . فهل هو الكسل الذي يدفع هؤلاء إلى الاستنساخ والمحاكاة ... أم العقم أم هو العمى الإدراكي الذي يدفع هؤلاء إلى أن يكونوا أصحاب الأيادي المرتعشة التي تفكّر في الكرسيّ أكثر من تفكيرها في المصلحة العامّة؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115