والمؤنس في أخبار افريقية لابن أبي دينار، والحلل السندسية في الأخبار التونسية للوزير السراج،وكتاب «جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين» وغيرها تجد هيمنة للتفسير الغيبيّ على الشعوب، وصراعا بين الأطباء الّين دعوا إلى عزل المرضى وتطبيبهم، والأولياء الّين قدّموا أنفسهم على أنّهم يملكون الدواء الناجع للمرضى المتمثّل في الرقى والطقوس السحرية الدينية وغيرها. أمّا الفقهاء فقد فسّروا الجوائح على أنّها عقاب من الله وغضب شديد على عباده بعد استشراء الفواحش وما على الناس إلاّ الاستسلام لقضاء لا مفرّ منه، والصبر على البلاء والمحنة،وانتظار الشهادة، والإكثار من الدعاء والأذكار والابتهالات. وإلى جانب هذه الخطابات والممارسات حاول بعضهم مقاومة الأوبة بتطبيق بعض الوصفات البسيطة كأكل البصل والطحينة والنواشف وشرب والخل والحوامض وتبخير البيوت بالعنبر والكافور والسعة والصندل وغيرها.
لقد خضعت أغلب هذه المؤلفات للتفكيك فحلّلت البنى الذهنية وسلوك الناس في فترات يسيطر فيها الخوف من الموت والمجهول، وطريقة تعامل الساسة مع هذه الكوارث والجوائح ولكن هل استطعنا الإفادة من تجارب الأمم وفهم أنفسنا ؟ هل تغيّرت نظرة الناس للأوبئة والجوائح؟ وهل عصمهم الإيمان بالعلم من اللجوء إلى التعبيرات الدينيّة والطقوس الدينية السحريّة وغيرها من الممارسات التي تكشف عن المتخيّل الذي تشكّل حول الكوارث والأوبئة والجوائح...؟
يستغرب أغلبهم خروج الجموع في مسيرات ليلية للدعاء والتكبير رغم التحذير، وتمسكّ البعض الآخر بأداء الصلوات الجماعيّة في الساحات العامّة رغم الحظر، ويتعجّب الجمهور من تصريحات نوّاب اعتبروا الوباء عقوبة بسبب منع النقاب، والمطالبة بالمساواة في الإرث، وخروج النساء في الجنائز... و تصيب الدهشة أغلبهم من وزير برّر عصيان الأوامر بخوف الناس، ووجه الاستغراب مفهوم فنحن أمّة لا تكترث بالثقافة ولا تقرأ: تكتشف تراثا عالميا حول الأوبئة عند حلول الجائحة.
ولكن إذا ما وضعنا هذه التصرّفات والمواقف في إطارها العامّ سنتبيّن أنّ سلوك فئة من التونسيين لا يختلف عن ممارسات شوهدت في مصر، والمغرب وباكستان، والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها والتي تفسّر بمأسسة الجهل، وانحطاط المؤسسات التعليمية، وعودة الأصولية والتعصّب وغيرها من الأسباب.
وفي السياق نفسه يجدر الربط بين سلوك هؤلاء الباحثين عن إحداث الفوضى بدعوى الخوف من المصير المحتوم، بسلوك المحتكرين التونسيين الذين لا يختلفون بدورهم، عن غيرهم من الرأسماليين الذين استغلوا هذه الأزمة للإثراء السريع والاستثمار في معاناة الناس، وأعادوا إنتاج طرق تعزّز مواقعهم وتخدم مصالحهم وتؤكّد حرصهم على ضمان امتيازاتهم. وفي الحالتين تشابه إلى حدّ التطابق فالدعاة يحرّكون الجموع الخائفة مردّدين أدعية تقصر النجاة على المؤمنين والمسلمين، وتقيم الجدران العازلة بين نحن/هم والحال أنّ الإنسانية قاطبة تمرّ بنفس التهديد... المهمّ في نظر هؤلاء التموقع من جديد والهيمنة على العقول. أمّا المحتكرون من أرباب الأعمال والأموال فإنّهم يفكّرون في مصالحهم وتثمير أموالهم. فالمهمّ هو نجاتهم ولا يهمّ أن يموت الناس جوعا وكمدا.
إنّ أصحاب هذه العقلية السائدة الذين يقفون بوجه مشروع إنسانيّ جديد أفرزته طريقة مختلفة في التفكير ترى أنّ حيوات الجميع مهمّة وينبغي أن تصان لأنّنا جميعا متساوون، يرفضون، في الواقع، تصوّر عالم مختلف تعمّ فيه العدالة الاجتماعية والمساواة وغيرها من القيم الإنسانية الكونية، ويمتنعون عن ابتكار حلول تدمج الجميع فلا تُترك فئات تواجه مصيرها بمفردها.
لاشك عندنا أنّ كلّ بلدان العالم تحوّلت إلى مخبر للتمحيص في السلوك والممارسات والتمثلات التي تحملها الشعوب حول الأمراض والأوبئة والموت والعدوى، والعزلة، والطبيعة... والتأمّل في بنية العلاقات الاجتماعية، والجندرية والدولية القائمة على التسلّط،والتمحيص في البنى الذهنيّة والنفسيّة، وآثار الفردانية والمناول الاقتصادية والاختيارات السياسية في حيوات الناس.
العالم يمور ...تحولات كثيرة ومفاهيم جديدة وطرق في التفكير مغايرة وإعادة ترتيب للأوليات واختيار لأنماط عيش مبتكرة وبناء لعلاقات مختلفة ...فهل سنكون على الموعد لنفكّر معا في عالم جديد: عالم ما بعد الكورونا؟