عندما تتقاذف الأهواء مجلس نواب الشعب: النظام البرلماني في خطر

لقد أراد المؤسسون أن يكون النظام السياسي برلمانيا في جوهره مع تعديله بانتخاب شعبي مباشر لرئيس الجمهورية وبصلاحيات تبدو

محدودة في ظاهرها ولكن الممارسة تكشف عن أهميتها وأحيانا محوريتها في زمن الأزمات.
والنظام البرلماني، حتى عندما يكون معدلا، هو نظام تتحكم فيه الأحزاب السياسية خاصة عندما يكون نظام الاقتراع معتمدا على النسبية وتغيب الأحزاب الكبرى القادرة على هيكلة المشهد السياسي فتحل محلها ائتلافات معقدة أحيانا ومتغيرة حتى أثناء العهدة النيابية الواحدة..
هذا التوصيف العام ينطبق على الوضع التونسي الحالي ولكن ما ينضاف إلى كل هذا هو وجود كتل متناحرة ينفي بعضها البعض الآخر نفيا مطلقا، نفيا يجعل من التعايش بينها أمرا شبه مستحيل..
وما يزيد في تعقيد المشهد البرلماني التونسي هو اعتماد الاستفزاز المتبادل كمنهج أساسي بل ووحيد للتعامل واللجوء إلى المظلومية وإظهار الخصم في ثوب المعتدي.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د


فما يميز البرلمان الناجم عن انتخابات 6 أكتوبر 2019 ليس فقط التشتت البادي للعيان بل هذا التنافي المتبادل بين الاسلامويين من جهة (حركة النهضة وائتلاف الكرامة) وبين ما يمكن أن نسميهم بالدستوريين الراديكاليين (الحزب الدستوري الحر) والاتهامات المتبادلة لا تقف عند حد ما يمكن أن نعتبره ينتمي للصراعات السياسية الحادة بل وصل إلى حدّ التلويح بالتكفير والاستعمالات التي أضحت متكررة لمفرداته عند نواب ائتلاف الكرامة رغم أن الدستور الحالي للجمهورية التونسية يمنعه منعا باتا في فصله السادس كما أن التكفير مجرم بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال ورغم ذلك يتفوه بعضهم بعبارات في تماس خطير مع التكفير ان لم تكن فعلا في صلبه خاصة في ما لم تلتقطه الميكروهات ورغم ذلك لا يتمكن المجلس ممثلا في رئاسته من وضع حد له بل يتم الاكتفاء بالتنديد الشفوي فقط..
ولكن على الخطورة القصوى للتكفير فإن ما يحصل باستمرار داخل الجلسة العامة لا يقل خطرا عن مآل المؤسسة التشريعية ككل لا فقط في تعطيل بعض أشغاله –وهذا مضر للغاية بمصالح البلاد– ولكن بصورة المجلس المهترئة إلى أقصى حد وبمفهوم الديمقراطية التمثيلية وهذا يصب بصفة مجانية في حساب كل المناوئين للنظام البرلماني سواء أكانوا من دعاة النظام الرئاسي أو من أنصار الديمقراطية المباشرة..
وإذا ما أضفنا إلى هذا المشهد المفزع الملاسنات الكلامية النابية بين كتل الائتلاف الحاكم ذاته وصلنا إلى نتيجة خطيرة وهي ضرب النظام البرلماني في مقتل من قبل كل الذين يعتقدون أنهم هم أنصاره وحماته الأساسيون.
لاشك ان كل مراحل الانتقال الديمقراطي تشهد حالات من الصراعات السياسية الحادة والحادة جدا ولكن ما يميز الوضع الحالي التونسي هو غياب المشترك الأدنى الضروري بين كل الفرقاء السياسيين. مشترك يحدده عادة الدستور، ولكننا نجد أنفسنا أمام نواب ينتخبون وفق هذا الدستور ويقسمون على احترامه ولكن ممارساتهم كلها تدل على أن احترام الدستور عندهم إقرار لفظي لا عمق له ولا إيمان به ولأنهم ينتمون إلى عالم التقسيمات المطلقة : مؤمن/ كافر أو وطني /خائن أو ثوري / معاد للشعب.. فمع هذه الاطلاقيات في تقسيم النواب ومن ورائهم أجزاء من الشعب التونسي تمنع بطبيعتها إيجاد هذه المناطق المشتركة الدنيا.
نحن لسنا فقط أمام أزمة النظام البرلماني بل أمام أزمة عارمة لفكرنا السياسي الذي يبتعد، تدريجيا عن الحوار العقلاني واختلاف وجهات النظر إلى مخيال تصفوي للمختلف المغاير.
لقد تحدثنا كثيرا في هذه الأعمدة عن خطر صعود الشعبويات ولكن عندما تصبح عقيدة شعبوية ما، أيا كانت، حقيقة مطلقة عند أصحابها فلا ينجم عنها إلا نسف المشترك الوطني وتهديد للبناء الديمقراطي برمته..
إننا لن نجتاز هذه الأزمة المتفاقمة إلا بإيجاد الجسور بين الجميع والاعتراف بحق الجميع في الوجود شرط الالتزام الكلي بمقتضيات الدستور شكلا ومضمونا وباحترام كلي لقانون البلاد خاصة من قبل المؤتمنين على احترام الدستور والمشرعين للبلاد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115