رئيس الجمهورية وحركة النهضة ورئيسها رئيس البرلمان فبعد رفض «الرئيس» لمفهوم «الرؤساء الثلاثة» يجيبه رئيس مجلس نواب الشعب والتحالف النيابي بين النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة بتسبيق الجلسة العامة للمصادقة على تنقيح القانون الانتخابي بإدخال عتبة %5 في التشريعية على الجلسة العامة لنيل حكومة الفخفاخ ثقة المجلس..
والغريب في بلادنا أننا أصبحنا كذلك إزاء اغلبيتين مختلفتين،أغلبية حكومية مع النهضة والتيار وحركة الشعب وتحيا تونس أساسا وأغلبية برلمانية مع النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة ،وكلتا الأغلبيتين تحرزان على حوالي نصف المجلس فحركة النهضة المتراجعة نسبيا سياسيا قد قررت اللعب على هذين «الحبلين» حتى تمسك ما أمكنها بخيوط اللعبة السياسية ..
ولكن بعيدا عن مناخات المناورات هذه حكومة الياس الفخفاخ ،بعد نيلها ثقة البرلمان واستلامها بصفة رسمية مقاليد السلطة تجد نفسها أمام تحديات ضخمة في نفس الوقت ويمكن ان نجملها في أربعة :
1 - إعادة الفاعلية القصوى لكامل جهازها التنفيذي بمستوياته المركزية والجهوية والتنفيذية والوظيفية
فلا يمكن حكم البلاد دون انخراط تام وكلي لكامل الجهاز التنفيذي ولكل موظفي الدولة، وعددهم حوالي سبعمائة ألف موظف، في هذا الجهد..وهذا سيكون الامتحان الأول ولعله الأعسر لرئيس الحكومة القادم ولكل وزرائه ،والخطر هنا أن يلجأ الوزراء الجدد وخاصة من لا يملكون خبرة إدارية إلى جيش من المستشارين يحجبونهم عن الإدارة الفعلية وعن مدرائها العامين كما حصل ذلك زمن الترويكا وبعده أيضا ..فالوزير الناجح هو الذي يقتصر ديوانه على ثلاثة أشخاص : مدير (ة) الديوان والكاتب (ة) الخاص(ة) والمسؤول(ة) عن الإعلام فقط لا غير وان يعمل مع المسؤولين الأول في إدارته فذلك هو وحده الكفيل ببعث الحماسة فيهم حتى يحركوا هم كل منظوريهم في إطار خطة العمل التي يضعها الوزير(ة) بعد استشارتهم ..لاشك أن هنالك أسبابا عديدة للضعف النسبي لأداء الإدارة ولكن أهمها يبقى هذه النظرة الاستعلائية التي قدم بها وزراء عديدون بعد الثورة فأحدثوا دواوين ملآنة بمستشارين غرباء عن هذه الوزارات بتعلة «الإصلاح» وان الإدارة الحالية عاجزة عن ذلك فتفاقمت أزمة الثقة وحجبت هذه الدواوين الوزراء عن الإدارة الفعلية فكثر الحديث عن الإصلاح ولكن غابت الفاعلية والتصرف الحكيم والعقلاني في الموارد البشرية .
2 - التحدي الثاني هو إيقاف النزيف :نزيف المالية العمومية والتداين المفرط للدولة ونزيف العجز التجاري ونزيف المؤسسات العمومية ونزيف الدعم الذي يذهب أغلبه لغير المحتاجين إليه ونزيف الصناديق الاجتماعية ..
لابدّ من الإقرار بأن الحكومة الحالية قد بذلت ما وسعها لمحاربة كل هذه الأصناف ولكن بنجاحات نسبية متفاوتة جدا بل الأصح بإخفاقات من النسبي إلى شبه الكلي..
والحقيقة أن كل أصناف النزيف هذه لا تعود مسؤوليتها فقط لحكومة الشاهد وسابقاتها أو لاحقاتها بل تعود أيضا إلى غياب الإرادة الجماعية عند كل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين لإيقاف هذا الانتحار الجماعي لأن الجراءة عليه جالبة للسخط والمتاعب ..
لابدّ أن تكون لرئيس الحكومة القادم الياس الفخفاخ الجرأة في أن يقول للتونسيين ،كل التونسيين ،إنكم تعيشون فوق إمكانياتكم منذ عقد من الزمن وأن المصير الوحيد للبلاد لو تواصلت هذه الحالة هو الإفلاس .
قد يبدو هذا الكلام غريبا في بلاد يعيش سدس مواطنيها تحت خط الفقر وثلثهم تحت خط الفقر متعدد الأبعاد وثلثاهم أو يزيد (في رأينا) تحت خط الهشاشة ..ولكن حقيقة الأرقام لا ترحم : نحن نستهلك أكثر مما ننتج فلجـأنا – جميعا- إلى الحلّ السهل وهو التداين،أقول جميعا لأنه كلما حاولت حكومة في السابق أن تعمد إلى بعض الإجراءات الخجولة لوقف هذا النزيف قامت الأصوات والإرادات من كل جهة فتتخلى السلطة التنفيذية تحت وطأة الشارع والقوى الاجتماعية والاحتجاجات والإعلام ..ولالياس الفخفاخ تجربة مرّة في هذا في جانفي 2014 عندما كان وزيرا للمالية في حكومة علي العريض ..
لا وجود لحلول سحرية على عكس ما تعتقده بعض مكونات الحكومة القادمة : كل حكومة توزع مكاسب اجتماعية أكثر مما يسمح به نسق نمو الاقتصاد،أي في الأخير وارداتها الجبائية،تتداين وترتهن بذلك الحاضر والمستقبل ..
لابدّ من إيقاف نزيف الإنفاق العمومي ولابد من إيقاف عبث نزيف المؤسسات العمومية وهذا الدعم الذي يذهب إلى غير مستحقيه..وإلا سيكون مصيرنا كاليونان بل أسوأ من ذلك لأنه لا داعم لنا سوى ما تنتجه عقولنا وسواعدنا .
والعبرة هنا بالبدايات،اي بخطاب نيل الثقة ،فالياس الفخفاخ ليس غريبا عن الدولة ولا عن حساباتها العامة وهو اليوم مدرك لحجم كل هذا النزيف فإما أن يصارح التونسيين بالحقيقة وبضرورة العمل على النهوض بالاقتصاد وتركيز الجهد الاجتماعي للدولة فقط على المعدمين والمحرومين والفئات ذات الهشاشة الكبرى والوسطى اما الطبقات الوسطى (والموظفون من بينهم) والطبقات الميسورة فعليها دعم الجهد الوطني للإنقاذ لأن في ذلك مصلحتها ومصلحة أبنائها .
ولنبتعد عن الشعارات المضرة بالمصلحة الإستراتيجية للبلاد ..حكومة الفخفاخ في حاجة إلى سيولة مادية مباشرة حتى تتمكن من حسن إدارة البلاد أي أنها محتاجة في الأسابيع القادمة إلى التفريط في بعض ممتلكات الدولة حتى لا تضيع الدولة ،ولا ينبغي ان تذهب هذه الموارد في نفقات التصرف بل فقط في التقليص من المديونية بشراء بعض الديون الأكثر ضررا بالبلاد من حيث نسبة الفائدة ومدة التسديد وان يخصص جزء ثان لتنمية المناطق الداخلية بمعنى خلق الثروة لا توزيعها في وظائف وهمية والاحتفاظ بالجزء المتبقي للأجيال القادمة ..لا ينبغي أن نكون كتلك العائلة التي لا تجد ما تسد به رمق أبنائها ولكنها تتعنت للمحافظة على كل مجوهرات الأجداد بتعلة أن ذلك تراث العائلة ولا ينبغي التفريط فيه.
3 - التحدي الثالث هو بداية إصلاح كل منظومات البلاد من الآن : المنظومات الاقتصادية والاجتماعية من اجل إزالة كل العوائق أمام النمو وتحرير إرادة كل الفاعلين الاقتصاديين والقطع مع النظام الريعي ونظام الامتيازات والاقتصاد الطفيلي فما بالك بالموازي وجرأة في سياسات التمييز الايجابي لا بتوزيع ثروة لم ننتجها بل بخلق جزر الذكاء والامتياز في هذه المناطق والارتقاء بها في سلم القيم معرفيا وتربويا واقتصاديا..
نحن نحتاج إلى إصلااااااااااح جذري وعميق لمنظوماتنا التربوية يجعل التفوق المدرسي العالمي أفقا متاحا لجل بناتنا وأبنائنا في كل مناطقنا وفي كل مستويات تعلمينا وهذا ممكن،شرط الابتعاد عن كل الأوهام العقائدية والمذهبية وووو..التفوق المدرسي هو أن يتفوق أكثر من %90 من كل التلاميذ في المعارف الأساسية : الرياضيات أولا وثانيا وثالثا والثقافة العلمية والقدرة على فهم النصوص تفكيكها وإعادة تركيبها وحذق ثلاث لغات على الأقل : العربية والفرنسية والانجليزية حتى تكون كل هذه المكتسبات أدوات يواجه بها خريجو وخريجات المدرسة التونسية كل تعقيدات وصعوبات وامكانيات الحياة العملية .
وهذا يستوجب ثورة راديكالية في مكانة المدرسة والمدرسين اجتماعيا وماديا كذلك ..
المدرس(ة) هو العنصر القيادي لهذا التحول المعرفي،وعليه ينبغي إعادة التفكير في تكوينه وكذلك في الامتيازات المادية والمعنوية له .
كل قطاع يحتاج إلى ثورة في حد ذاته:الصناعة والفلاحة والسياحة والرياضة والثقافة..والمفروض أن يقدم للتونسيين كل وزير(ة) تصوره وسياسته للآني وللآجل المتوسط والبعيد كذلك خلال ما تبقى من عمر هذه السداسية الأولى لسنة 2020.
4 - التحدي الرابع هو ما نسميه بمتلازمة (le syndrome) الشاهد والذي يجب على رئيس الحكومة القادم الياس الفخفاخ أن يتجنبه بأقصى قوة وجهد، وهو التفكير في مشروع سياسي من القصبة سواء أكان ذلك في قطيعة مع الرأس الثاني للسلطة التنفيذية ،اي رئيس الجمهورية، كما كان حال يوسف الشاهد مع المغفور له الباجي قائد السبسي أو في تناغم معه كما يبدو انه قد يكون حال الياس الفخفاخ مع قيس سعيد .
منصب رئيس الحكومة هو منصب سياسي ما في ذلك من شك ولكن هناك فرق بين ممارسة السياسة بمعناها النبيل أي حسن إدارة شؤون الناس والقيام بكل أعباء هذه المهمة وبين التفكير في مشروع سياسي للانتخابات القادمة ..فذلك ما افسد خاصة النصف الثاني من فترة حكم الشاهد وكما لاحظ الجميع لم يجن منه الشيء الكثير ..
مجرد التفكير في مشروع سياسي ،أيا كان هذا المشروع سيجعل من الياس الفخفاخ يفكر في كل قرار وفق ما يخدم او يتعارض مع هذا المشروع،بينما لو جعل من نجاحه ونجاح حكومته مشروعه الأوحد الوحيد مهما كانت الإغراءات والضغوطات (وستكون كثيرة يقينا) فانه بإمكانه ان يستغل فترة حكمه والتي قد تمتد على كامل هذه العهدة الانتخابية للنهوض بالبلاد والعباد دون الاكتراث بالمنافسين وخاصة بالموالين والمتزلفين من كل حدب وصوب،عندها وعندها فقط قد يكون لالياس الفخفاخ ،وهو الأربعيني الشاب ، حظوة عند الناس ومستقبل سياسي محتمل ..
لنقرض الياس الفخفاخ قرضا حسنا..قرضا،ككل قروض البنوك،يحتاج إلى ضمانات لا القول فقط بل الفعل أساسا.
تحديـات الإنقاذ وسبل الإصــــــلاح • تجنب متلازمة (syndrome) الشاهد
- بقلم زياد كريشان
- 08:47 21/02/2020
- 2630 عدد المشاهدات
أيام قليلة وتعرض حكومة الفخفاخ أمام البرلمان لنيل الثقة في ظل تواصل مناخات المناورات بينها – أو بالأحرى – بين داعمها الأساسي