أصبح الجميع من سياسيين وإعلاميين ومؤسسات الدولة يطلقون لقب «رئيس الحكومة المكلف» على الحبيب الجملي ومن بعده على الياس الفخفاخ و«رئيس حكومة تصريف الأعمال» على يوسف الشاهد .. ولكن هل نحن فعلا ، من الناحية الدستورية، أمام حكومة تصريف أعمال أم هو مجرد اصطلاح إعلامي سياسي لا علاقة له البتة بدستور البلاد ؟
لا يرد مفهوم «تصريف الأعمال» إلا مرة واحدة في الدستور وتحديدا في الفصل 100 وفي حالة وحيدة يفترضها هذا الفصل وهي حصول شغور نهائي «لمنصب رئيس الحكومة لأي سبب عدا حالتي الاستقالة وسحب الثقة» أي بسبب عجز دائم عن أداء رئيس الحكومة لمهمته إما بالوفاة أو بسبب مرض يحدّ بصفة هامة ونهائية من قدراته الذهنية أو البدنية.. في هذه الحالة نعود تقريبا إلى الوضعية الأصلية لتشكيل الحكومة بالمرور عبر مرشح الحزب أو الائتلاف الحاكم الذي يكلفه رئيس الدولة بتشكيل حكومة جديدة في غضون شهر غير قابل للتمديد وإن استحال الأمر يكلف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر ليتولى تكوين حكومة »..وهنا وهنا فقط ينص الدستور بصريح العبارة في الفقرة الأخيرة من هذا الفصل : «تواصل الحكومة المنتهية ولايتها (التشديد لنا) تصريف الأعمال (التشديد لنا) تحت اشراف عضو منها يختاره مجلس الوزراء ويسميه رئيس الجمهورية إلى حين مباشرة الحكومة الجديدة مهامها».
نحن في حالة خاصة جدا وهي حالة «الشغور النهائي لمنصب رئيس الحكومة» دون أن يكون هذا الشغور ناجما عن استقالة لأن الأمر يعود هنا إلى رئيس الجمهورية أو سحب ثقة لان التكليف الجديد هو من مشمولات مجلس نواب الشعب والذي في نفس لائحة اللوم على اسم رئيس الحكومة الجديد وفق الفصل 97..نحن في حالة خاصة للغاية يضطر فيها رئيس الحكومة المباشر إلى مغادرة منصبه ويعوضه احد الوزراء باختيار من مجلس الوزراء وبتسمية من رئيس الدولة ..
حكومة يوسف الشاهد في وضعية مختلفة تماما فرئيسها مباشر لمهامه ولا وجود في نص الدستور لأية إشارة مباشرة أو غير مباشرة بان مثل هذه الحكومة تكون في حالة تصريف أعمال بل هي حكومة كاملة الصلاحيات كما يؤكد ذلك لنا أستاذ القانون الدستوري سليم اللغماني وهي حكومة قادرة ،دستوريا، على القيام بكل ما يخوله لها الدستور في القسم الثاني من الباب الرابع المتعلق بالسلطة التنفيذية من تعيينات وإقالات وتغيير حكومي سواء بتسديد الشغورات أو حتى بإحداث خطط حكومية جديدة كما لا يوجد نص يمنع مجلس نواب الشعب من سحب الثقة من الحكومة بأسرها أو من احد وزرائها ..
فالاعتقاد اذن بان حكومة الشاهد لا يمكنها ترميم الحكومة بتعويض الوزراء المغادرين هو وهم لا غير لا يقوم على أية حجة دستورية أو قانونية .
وضعنا الدستوري الحالي الحقيقي هو أن يوسف الشاهد رئيس حكومة عادية كاملة الصلاحيات وان الياس الفخفاخ هو الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة القادمة وأن حكومة الشاهد تنتهي صلاحياتها فقط عندما تنال حكومة الفخفاخ ثقة مجلس نواب الشعب كما أن حكومة الشاهد ستواصل مهامها كاملة في صورة عدم حصول الياس الفخفاخ على ثقة مجلس نواب الشعب مع العلم أن حل البرلمان هو إمكانية منحها الدستور لرئيس الدولة بعد أربعة أشهر من التكليف الأول، اي من يوم 15 نوفمبر 2019، وهذا يعني أن الاحتمال النظري قائم لعدم حل البرلمان ولمواصلة حكومة الشاهد عملها إلا في حالة استقالة رئيسها أو سحب الثقة منه.
هذا ما ينص عليه الدستور التونسي يبقى بطبيعة الحال أن هنالك فرقا بين ما يبيحه الدستور وما يبيحه الذوق الدستوري أو الذوق السياسي كما يقال فإن كان من حق الحكومة الحالية، أو أية حكومة قادمة في وضعيتها ،القيام بكل الإجراءات والتدابير والإقالات والتعيينات وإجراء المفاوضات داخليا وخارجيا التي يسمح لها به الدستور إلا انه من الذوق ألا تلزم حكومة ما في فترة كهذه، أي بعد انتخابات تشريعية وإفراز أغلبية جديدة،الحكومة التي ستعقبها بتعهدات أو التزامات إستراتيجية .
ولكن تعويض الوزراء المغادرين، وعددهم في تزايد ،لا يعد من باب القرارات الملزمة للحكومة القادمة. والغريب أن بلادنا تبدأ مرحلة ديبلوماسية هامة بانتخابها كعضو غير دائم في مجلس الأمن دون وزير خارجية فعلي والآن دون مندوب دائم بعد إقالة المنصف البعتي وكذلك دون تعويض وزير الدفاع أو النقل أو التنمية أو غيرها من الحقائب الوزارية العديدة التي يتصرف فيها اليوم وزراء بالنيابة .
لقد أوهمنا أنفسنا جميعا،حكومة ومؤسسات دولة وأحزابا سياسية وإعلاما ورأي عام،بأننا إزاء حكومة تصريف أعمال فأصبحت في أحيان كثيرة دون ذلك والحال أن دستورنا الغض لم يفترض مطلقا هذه الوضعية.
نحن أمام مثال حي كيف يتحول مفهوم إعلامي سياسي غير دقيق إلى نوع من العقيدة التي لا تناقش ونؤسس عليها جملة من التصرفات والقرارات كلها خاطئة ومضرة بالمصلحة الوطنية .
يمكن أن نقول بأن هنالك ثغرة في الدستور وان المنطق يقتضي بأن تصبح الحكومة حكومة تصريف أعمال منذ أن يحصل تكليف شخصية بتشكيل الحكومة وان يضبط الدستور بدقة ما معنى «تصريف الأعمال» ..بالفعل يمكن أن نفكر في ملء هذا الفراغ ،وما أكثرها الفراغات التقنية المهمة في الدستور ولكن هذا يحتاج أولا وأخيرا إلى وجود محكمة دستورية كما ينص على ذلك بوضوح الباب الثامن من الدستور المتعلق بتعديل الدستور .
في الأثناء على كل مؤسسات الدولة تطبيق الدستور ،كل الدستور ولا شيء غير الدستور .