آخر هذه الحبات التي تنفرط التغيّب المتعمد لراشد الغنوشي وحضور نورالدين البحيري ،رئيس الكتلة النيابية،بدلا عنه وإعلان ذلك قبل اجتماع «القمة» للحزام السياسي يوم أمس والتصريح بأن النهضة لن تمضي على وثيقة «حكومة الوضوح وإعادة الثقة» وأن ذلك لن يحصل إلا بعد «الاتفاق النهائي على الحزام السياسي وهيكلة الحكومة وبرنامجها وتركيبتها النهائية» ..وبهذا وضعت النهضة نقطة نهائية للتمشي الذي وضعه الياس الفخفاخ منذ البداية :
أسبوع للحزام السياسي وثان لبرنامج وثالث لتركيبة الحكومة ليجد نفسه بعد أسبوعين من التكليف بـ«حزام سياسي» قد لا يكفي لنيل الثقة وبـ«برنامج» لم يمض عليه أحد .والأكيد أن شهية بعض الأحزاب الأخرى بصدد التفتح الآن وهي الآن بصدد وضع شروط حول الحزام السياسي والبرنامج وتركيبة الحكومة.
لقد اعتقد الياس الفخفاخ أن إعلانه الانخراط في «خط» الرئيس سيجنبه كل معوقات سلفه غير المحظوظ الحبيب الجملي وانه سيحرج كل شركائه المفترضين بدءا بحركة النهضة مادام الياس الفخفاخ يقول اليوم ما كانت تردده النهضة صباحا مساء ويوم الأحد منذ شهرين فقط .ولكن حسابات الفخفاخ لم تكن دقيقة وقد يكون بعض مستشاريه قد أوهموه بقدرتهم على إقناع الحركة الإسلامية بهذا النهج السياسي والقاضي باستبعاد قلب تونس بالأساس لا فقط من الحزام السياسي المفترض للحكومة بل ومن المشاورات أصلا .
وفي الحقيقة ما لم يدركه الياس الفخفاخ وما لم يقرأ له حسابا هو أن المشكلة الأساسية لحركة النهضة لا تكمن في إقحام قلب تونس في الحكومة القادمة بل في قراءتها الجديدة للواقع السياسي اليوم.
حركة النهضة وإن لم تصرح يوما بهذا إلا أنها لا تثق البتة في رئيس الدولة قيس سعيد وهي تخشى أن يستولي هذا الأخير على كل مقاليد السلطة التنفيذية بواسطة الياس الفخفاخ الذي بدا وكأنه منسق لحكومة قادمة تعمل تحت إمرة رئيس الدولة ،ثم حركة النهضة فقدت ثقتها في التيار الديمقراطي وحركة الشعب بدرجة أولى وبتحيا تونس بدرجة ثانية بعدما عمل هذا الثالوث على إسقاط حكومة الجملي .فالنهضة لا تريد اليوم أن تكون في حكومة فقط مع هذا الثلاثي كلفها ذلك ما كلفها ..
ثم – لو أردنا أن نكون ايجابيين – لعل الحركة الإسلامية تخشى من فشل متوقع لحكومة سياسية تتنافر مكوناتها منذ أول صعوبة فتتحمل هي الوزر الأكبر للفشل وتفتح بذلك طريقا سيارة أمام معارضة قوية تتكتل حول قلب تونس والدستوري الحرّ.
كل هذا يحشر اليوم الياس الفخفاخ في الزاوية فإما أن يواصل على نفس النهج الذي أعلنه على العموم وبذلك قد يحطم الرقم القياسي للحبيب الجملي كأضعف تصويت جديد لحكومة تتقدم لنيل ثقة مجلس نواب الشعب،او يتراجع عن تعهداته العلنية فيستدعي قيادات قلب تونس للتشاور معهم وهكذا يكون قد فقد كل مصداقيته السياسية.
الياس الفخفاخ هو اليوم في وضعية أعسر بكثير من تلك التي كان فيها فاتح الأندلس طارق بن زياد بعد إحراقه لسفنه إذ قال لجيوشه آنذاك:
«البحر وراءكم والعدو أمامكم» فيما نسب إليه المؤرخون.فالياس الفخفاخ ،تماما كطارق بن زياد ،قد احرق سفنه قبل المعركة ولكنه لا يتوفر على الجيوش القادرة على الفوز في معركة البرلمان،وسنده السياسي الأساسي ،رئيس الجمهورية ،لا يملك له في هذه المعركة شيئا يذكر ..
لقد أراد المكلف بتشكيل الحكومة (والنهضة لم تعد تذكره إلا بهذه الصفة بدلا من العبارة التشريفاتية الزائفة وغير الدقيقة ،رئيس الحكومة المكلف) أن يجعل من هذا الأسبوع الثالث أسبوع النقاش حول تركيبة حكومته معتقدا - في البداية- انه بإمكانه التوجه لنيل ثقة مجلس نواب الشعب بعد ثلاثة أسابيع فقط من التكليف ،لكن الرياح جرت بما لا يشتهي الياس الفخفاخ إذ سيجد نفسه مضطرا إلى تعديل بعض أوتاره في هذا الأسبوع الثالث والمصيري بالنسبة اليه ورهانه واضح: تعديل نسبي للأوتار دون خسارة ماء الوجه مع اقتناع نهضوي بهذا التعديل،وقد يكون هذا التعديل في التشاور مع شخصيات مستقلة مقربة من قلب تونس ثم إعطاء حصة الأسد للنهضة في الفريق الحكومي القادم..
ولكن هل يقبل الغنوشي بهذه الفدية؟ أما سيطالب الفخفاخ بذبح عظيم ؟
ذلك هو السؤال ..