لقد عشنا طيلة السنتين الأخيرتين خاصة على وقع الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية: رئيس الدولة من جهة ورئيس الحكومة من جهة أخرى.. وفي الحقيقة بدأ هذا الصراع بين حمادي الجبالي ومنصف المرزوقي وتواصل مع هذا الأخير والمهدي جمعة ثم كان خافتا إلا في النهاية بين الحبيب الصيد والمغفور له الباجي قائد السبسي ثم مدويا وحادا بين هذا الأخير ويوسف الشاهد.. ولعلنا نجد في نظامنا السياسي قبيل الدستور وبعده ما يبرر هذا التنازع في الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية.. ولكن في هذه الخماسية الجديدة نحن بصدد صراع مبتكر وعلى غير نموذج سابق بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي..
بعد صراع خافت ما بين الديبلوماسية البرلمانية النشيطة لراشد الغنوشي (استقبال سفير كل يوم) وما يفترض أن يكون المجال المميز لرئيس الدولة والذي أوكل له الدستور تمثيل البلاد وقيادة سياساتها الخارجية تحول مجال الصراع إلى مسألة تشكيل الحكومة حيث أحبط راشد الغنوشي دعوة قيس سعيد للأحزاب الأربعة التي أوشكت على تكوين ائتلاف حاكم (النهضة والتيار وحركة الشعب وتحيا تونس) في رسالة واضحة من رئيس حركة النهضة بأنه لا دور لرئاسة الجمهورية في هذه الفترة الثانية للحبيب الجملي وان النهضة قد نفضت يديها من المشاورات مع هؤلاء الشركاء المحتملين وأنها لن «تأخذ بخاطر» رئيس الدولة لاستئنافها ولو بصورة شكلية.. فجاء الرد يوم أمس من قرطاج عندما رفض قيس سعيد القائمة التي اقترحها عليه الحبيب الجملي والتي أشّر عليها رئيس حركة النهضة بحجة مزيد التثبت من الاستقلالية الفعلية لبعض أفرادها ومن خلو ملفاتهم من تتبعات عدلية أو جبائية محبطا بذلك التصريحات الأخيرة لرئيس مجلس نواب الشعب بأن الإعلان عن الحكومة (حكومته) سيكون يوم الخميس الماضي أو على الأقصى يوم أمس الجمعة، ولكن عاد الحبيب الجملي من قصر قرطاج دون استجابة رئيس الدولة وبما يفيد بأن الحكومة لن تتشكل في كل الأحوال قبيل نهاية هذه السنة. وهكذا تكون المقابلة واحدة بواحدة في ملف التشكيل الحكومي..
أما يوم أمس فقد شاهدنا أمرا مضحكا بكل المقاييس رغم تعلقه بمسألة حساسة تهم أحد عناصر قوة الاقتصاد الوطني وتعيش منها عشرات آلاف العائلات ونقصد به ذلك الاجتماع الذي انعقد بمجلس نواب الشعب تحت رئاسة راشد الغنوشي وبحضور كل المتدخلين في قطاع الزيتون والزيت.. أي نفس الفاعلين –تقريبا- الذين اجتمعوا قبل يوم بقصر قرطاج تحت رئاسة قيس سعيد وللتباحث في نفس القضية.. مع الفارق في وجود رئيس حكومة تصريف الأعمال بقرطاج وغياب وزير الفلاحة ووجود وزير الفلاحة في باردو مع غياب رئيس حكومة تصريف الأعمال..
بعبارة أخرى هنالك قرار واضح من رئيس النهضة ورئيس البرلمان بان لا يترك أي مجال للتحرك السياسي لقيس سعيد خارج مجاله الدستوري الضيق أي الأمن القومي والديبلوماسي وأنه حتى في هذين المجالين المخصوصين سيكون حاضرا تحت غطاء الشرعية البرلمانية ..
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
والواضح أيضا أن هنالك إستراتيجية مضادة بصدد التبلور في قصر قرطاج ومفادها أن تمتد أيادي الرئيس إلى المجالات الحيوية الاقتصادية والاجتماعية قبل تشكيل الحكومة وبعدها وسنده الدستوري واضح : فهو الذي يترأس مجلس الوزراء وجوبا في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية وله أن يحضر فيه متى شاء وأيا كان الموضوع وبمجرد حضوره يترأس مجلس الوزراء وفق نص الفصل 93 من الدستور.
كما أن لرئيس الدولة أن يخاطب مجلس نواب الشعب متى أراد وفق الفصل 79 وهذا دون الحديث عن الصلاحيات الضخمة التي يعطيها إياه الفصل 80 ومسألة «الخطر الداهم» ويمكننا أن نراهن منذ اليوم بأن الرئيس قيس سعيد سيستغل كل هذه الإمكانيات التي يتيحها له الدستور وأنه لن يكتفي برئاسة وفق المعنى الضيق لصلاحيته الدستورية ..
سيكون الصراع بين الرجلين على أشده خلال هذه الخماسية لكي يتثبت كل واحد منهما أنه هو أصل الشرعية الانتخابية من جهة وأنه هو الأقدر من منافسه على حل مشاكل الناس وعلى قيادة البلاد أيضا..
والصراع لن يكون فقط شخصيا بل هو كذلك صراع بين مشروعين سياسيين يفكران في 2024، مشروع الاسلام السياسي للنهضة اليوم ومشروع ما يمكن أن نطلق عليه بالشعبوية الثورية المحافظة.. وهذان المشروعان يلتقيان في نقاط عدة ولاشك ولكن من موقعين مختلفين وبرغبات قيادية متناقضة..
الخلاصة الأولى ونحن في بداية هذه العهدة الجديدة أن دور رئيس الحكومة سيتقلص إلى الأقصى وستغيب عنه بكل وضوح المسحة السياسية بينما سيتضخم دور رئيس مجلس نواب الشعب كما لم يحصل من قبل في التجربة الديمقراطية التونسية الفتية..
والخلاصة الثانية أن المحاصرة اللصيقة بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان ستلقي بظلالها على جل مجالات الحياة العامة وستكون أمام سياسة تقليم أظافر متبادلة قد تنهك الرجلين والبلاد معهما..
هذه المؤشرات وغيرها تفيد بأن الحملة الانتخابية لسنة 2024 قد انطلقت بعد ولسنا ندري هل أن مختلف الأطراف السياسية ستكتفي فيها بالمناوشات المحدودة أم أن المواجهات ستكون مفتوحة بغية الإنهاك النهائي للخصوم..
في المحصلة هذه المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي ستكون أكثر حدّة من سابقتها مع تفاقم منتظر للأزمة الاقتصادية والاجتماعية..