من أجل إبراز وجاهة قراءتهم لأهداف الزيارة وأبعادها، وما سيترتّب عنها من نتائج محليّا وإقليميّا. وإنّما سنكتفي بالتركيز على جانب من التفاعل الّذي حدث بين الرئيسين على مستوى الخطاب السياسيّ. ونحن إذ نهتمّ بعبارات تندرج في إطار حسيّ يشمل حاسّة الشمّ نتساءل: ما الروائح التي لفتت انتباه رئيس دولة فجعلته يغادر الإطار المعهود والرسميّ لإلقاء الكلمات ليشير إلى «قوّة الروائح» السائدة في القاعة، وليحذّر من التهاون البرتوكوليّ في مراعاة المعايير الصحيّة، فيختم كلمته بتقديم نصيحة «المحب» الغيّور على مصلحة الآخر إلى صديقه؟
وكان ردّ رئيس الجمهوريّة التونسيّة مندرجا في إطار التوضيح: أليس من مهامّ الأستاذ الشرح، والتعليل؟ فالروائح ليست في علاقة بالتبغ المضرّ بالصحّة بل هي روائح محفّزة على الأكل، وهي منبعثة من المطبخ الرئاسيّ الّذي أعدّ طعاما يليق بالضيف من عناصره الثمينة: زيت الزيتون. وهنا يكون حديث الرجلين متماهيا مع ما ضبطه الجاحظ في نوادر البخلاء: «كلام بكلام».
قد يتوقّع البعض، بحكم جندرنا، والأدوار التي تسندها الثقافة للنساء أن نتعمّق في دلالات الروائح، ونشير إلى ما وفّرته أنتربولوجيا الروائح من أدوات للفهم تسمح لنا بتحليل أثر الرائحة في سلوك الفرد، وبنية علاقاته بالعباد والأشياء، وحياته الجنسيّة... ولكنّنا سنبقى في مجال السياسة لنتطرّق إلى ما وراء الحديث عن الروائح، وعراقة المطبخ التركيّ الذي أثّر في الطبخ التونسيّ. فكان الناس يمدحون الأطايب التركيّة : البقلاوة، والقهوة، وغيرها، وكان علية القوم يتباهون بالغليون العثمانيّ.
الحديث عن الروائح ظاهره التزام صديق بنصح صديقه، و«النصيحة كما نعلم من الدين». ولكنّه، في تقديرنا، تموقع سياسيّ. فأردوغان يصطف وراء السلطان مراد الرابع الذي تصدّى للتدخين سنة 1633 فطلب من مفتي إسطنبول أن يصدر فتوى بتحريم الدخان وقرارًا بإعدام من يدخّن في المقاهي والأماكن العامّة. ولذلك لم يجد «أردوغان» حرجا في تحذير المدخنّين، والرئيس التونسيّ من بينهم، من عواقب هذا الجرم. ولا يغيبنّ عن الذهن أنّ الرئيس أردوغان كان قد تعهّد منذ 2010 ببذل مزيد من الجهد من أجل مكافحة التدخين وذلك على إثر تسلّمه جائزة من منظمّة الصحّة العالمية لمساهماته الشخصيّة في هذا المجال على الصعيد العالميّ. ولكن بين أردوغان المتخلّي عن فخامة الغليون والمهتمّ بفتاوى التحريم وواقع المدرّسين المنهكين والمكدودين الذي يحوّلهم إلى مدمنين على السيجارة والقهوة مسافة لا يدرك رمزيتها إلاّ ذوو الألباب.
وتذكرنّا هذه الحادثة المرتبطة بآداب السلوك في حضرة السلاطين والخلفاء بحادثة سابقة لحاكم خليجيّ أراد تأديب الرئيس السابق المنصف المرزوقي وتلقينه درسا في آداب التحيّة. وفق هذا الطرح تبدو العلاقات الدولية قائمة على حسن التموقع وين تحطّ نفسك تصيبها'. فإذا أردت أن تفاوض وترسي قواعد المعاملات عليك أن تبهر الآخر وتصدمه وتختبر مدى قدرته على الردّ لاسيما «إن فاحت روائح مطبخه».
وفي بلد سكب عدد من الفلاّحين منتوجهم في الطريق حليبا وزيتا ورابطوا أمام الوزارة معبّرين عن غضبهم من وزير لم ينصفهم وآثر إرضاء المستهلك كان على الرئيس أن يراعي مصلحة «الشعب» فيروّج بنفسه للمنتوج التونسيّ المقدّس ذلك أنّ الزيتونة «شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء» ومن يغزو أسواق العالم، ويفيد من علاقته بالإخوان في تونس عليه أن يقبل بمبادلات تجارية تراعي مصلحة الأصدقاء.
يبدو اللقاء بين الرئيسين منافسة على ركح السياسة: كلّ يحاول أن يبرز مهاراته الأدائية performance ولكن تقبّل الجمهور كان سلبيّا. فما دامت الشفافية مفقودة وما يدور بين الرؤساء غير معلوم للعوام فإنّ تكهنات الناس تسير في اتّجاه توقّع الأسوإ لاسيما بعد أن فاحت رائحة المطبخ السياسيّ، وتعثّر «الشاف» في إيجاد الوصفة المناسبة لإشباع العقول والبطون.