لو تمكن رئيس الحكومة المكلف من تشكيل حكومة وحتى لو نالت هذه الحكومة ثقة أغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب ..
وهذا الفشل المبرمج لا يعود بالأساس إلى رئيس الحكومة المكلف ولا إلى شخصيته،رغم تحمله نصيبا هاما منه،ولكن يعود إلى «خطيئة» أصلية تقاسمتها جل الأحزاب المعنية بالحكم حسب مختلف السيناريوهات المتعددة والمتناقضة التي أعدتها حركة النهضة صاحبة التكليف الدستوري.
والنهضة وإن تتحمل القسط الأوفر في هذا الفشل ولكنها لا تختص به لوحدها كذلك .
ماهي هذه «الخطيئة الأصلية» وما سبب كل هذه البلية؟
تكمن هذه «الخطيئة الأصلية» في سوء قراءة وفهم الوضع العام للبلاد وللواقع السياسي كما أفرزته نتائج الانتخابات..
هنالك قراءتان سياسيتان سطحيتان للمشهد السياسي المنبثق عن الانتخابات ،قراءتان هيمنتا على المشهد السياسي الإعلامي ومنعتا بالتالي من فهم جيد لما يتطلبه وضع البلاد .
• اعتقدت القراءة الأولى أن أحزاب «الخط الثوري» هي التي انتصرت في الانتخابات التشريعية وان «المد الثوري» هو الذي انتصر في الرئاسية وعليه فعلى هذه الأحزاب تشكيل «حكومة ثورية» في تناغم مع توجهات رئيس الجمهورية .
وبالطبع اضطرت هذه القراءة إلى إضفاء لبوس الثورية على حركة النهضة وكذلك على تحيا تونس لا باعتباره حزبا ثوريا بل حزب له مصلحة في الثورة وأضافت إليهما التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة واعتقدت أن هذا الخماسي هو وحده القادر على «التسييج السياسي»لحكومة «الثورة»..
بطبيعة الحال لم يكلف أصحاب هذه النظرية أنفسهم مؤونة الإجابة عن أسئلة بسيطة لعل أهمها أن حكومة تصريف الأعمال المنتهية ولايتها هي حكومة التحالف الثنائي تحيا تونس والنهضة،أي وفق التعريف أعلاه «حكومة ثورية» والحال أن أصحاب هذه النظرية يشرحون لنا صباحا مساء بأن انتخابات 2019 قامت ضد منظومة الحكم (2014 - 2019) أي ضد حكومة تحيا تونس والنهضة إلا اذا قلنا بأن هذين الحزبين قد تحولا بعد 6 أكتوبر 2019 من حزبين مخاصمين للثورة الى حزبين صديقين لها ..
ثم عندما نقول بأن التونسيين قد صوتوا بكثافة للأحزاب «الثورية» الخمسة ينسى أصحاب هذه النظرية أن مجموع نسبة كل هذه الأحزاب من تصويت التونسيين يوم 6 أكتوبر بلغت فقط %40.6 من مجموع الأصوات المصرح بها وان نسبتهم جميعا من مجموع المسجلين في القائمات الانتخابية هو دون %17..إذن أين هذا التصويت الكثيف لأحزاب»الثورة» كما يردد يوميا على مسامعنا ؟
• القراءة الثانية الخاطئة، هي الأخرى، هي التي تقول بأن الناخبين صوتوا أساسا لحزب النهضة وقلب تونس ووضعاهما في المرتبتين الأولى والثانية وانه عليهما العمل معا كما كان الشأن في بداية 2015 بين النداء والنهضة وبطبيعة الحال لا يقول لنا أصحاب هذا التصور «البراغماتي» للحكم ماهي القاعدة الديمقراطية التي تفرض تحالف الحزب الأول مع الثاني ولا عن البرنامج المشترك بينهما ولا كيف نفسر لناخبي هذين الحزبين الشيطنة المتبادلة خلال الحملة الانتخابية ثم الحكم معا ؟ !
ثم حتى في هذه الحالة نحن فقط أمام ثلث أصوات الناخبين لهذين الحزبين مجتمعين وأننا بعيدون جدا عن ثلثي الناخبين في 2015 للنداء والنهضة معا..
الإشكال الرئيسي في هاتين القراءتين للواقع السياسي الراهن هو إغراقهما في الحسابات السياسوية التكتيكية وإغفال تام لوضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي ولما تحتاجه من حلول عاجلة وآجلة وماهي الحكومة الملائمة لهذا الوضع الدقيق ؟ هذه الأسئلة الأساسية كانت هي الغائب الأكبر في كلتا هاتين القراءتين ،وعندما نعلم ان تشكيل حكومة الجملي / النهضة تستلهم خططها الأساسية من هاتين القراءتين في شكل مخطط أ ( حكومة ثورية ) ومخطط ب( حكومة غير سياسية لأن تسويق التحالف النهضوي القلبي صعب جدا على جماعة مون بليزير).
تكمن «الخطيئة الأصلية» في هذه القراءة السياسوية القاصرة للمشهد السياسي العام للبلاد فنحن لسنا أمام أحزاب «الخط الثوري» من جهة أمام أحزاب «الفاشية والفساد » أو أحزاب الاعتدال مقابل أحزاب التطرف.. فنحن بهذا نتغاضى عن الدرس الاساسي لانتخابات 2019 وهو معاقبة منظومة الحكم ، وأساسا حركة النهضة وحزب نداء تونس وكل مشتقاته، ومعاقبة جل المنظومة الحزبية مع صعود قوي لتيارات شعبوية أو قصووية من اتجاهات مختلفة على خلفية الفشل المتراكم لكل حكومات ما بعد الثورة على امتداد كل هذه السنوات والتي سنسميها بالمرحلة الأولى للانتقال الديمقراطي ولكن مع هذا المزاج الشعبي والسياسي الجديد لابد من ملاحظة التراجع الكبير لقدرة الدولة التوزيعية وتواصل انخرام العناصر الاساسية للمالية العمومية مع ضعف هيكلي للنمو وما يتبعه من تراجع نسبي للاستثمار وتراجع حاد للادخار ..
فالمشهد العام للبلاد هو كالتالي :
- تراجع منظومة الأحزاب إجمالا وازدياد الارتياب فيها كما تبينه كل عمليات استطلاع الرأي ..
- تنامي التيارات الشعوبية أو القصووية أو المثالية على خلفية خيبات الأمل المتتالية
- تنامي المطلبيات وتعاظمها وتشابكها
- تراجع القدرة التوزيعية للدولة، أي القدرة على الإرضاء المباشر للمطلبيات إلا بمزيد الاقتراض اي ارتهان المستقبل الاقتصادي للبلاد ..
- تواصل ضعف الدولة وقدرة هياكلها ومؤسساتها على الانجاز وفرض احترام القانون ومقاومة الفساد وكل أشكال الانحرافات
هذه هي المميزات الأساسية لما نسميه بالمرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي والتي دشناها مع الانتخابات العامة في خريف 2019،وهذه الصورة تدفع بنا أساسا إلى إعطاء الأولوية المطلقة لإنقاذ البلاد والحد من تدهور عناصر الاقتصاد واسترجاع ثقة كل الفاعلين في الداخل وشركائنا في الخارج وهذا يعني حكومة على قدر كبير من الكفاءة الاقتصادية وقدرة على التفاوض الداخلي والخارجي ولها رؤية لمرحلة الإنقاذ الأولي وخطة متوسطة المدى لإنعاش فعلي للاقتصاد ولابتكار حلول جديدة للحد من البطالة ومن التفاوت الجهوي دون ارتهان مستقبل البلاد بحلول ترقيعية قصيرة المدى .
والواضح أن جل المنظومة الحزبية غير قادرة ،اليوم،على تحمل كل هذه الأعباء ،لا لعجز هيكلي في قياداتها بل لكونها لم تفكر في إدارة الحكم الحالي بل فقط في الوصول إليه ..والواضح أيضا أن حلا كهذا يقتضي توافقا سياسيا واجتماعيا واسعا حول السياسات الانقاذية للبلاد وكذلك الشخصية الأقدر لقيادة المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي ..
والسؤال اليوم هل أن «الحلّ» الذي وصل اليه السيد الحبيب الجملي يوم أمس بتشكيل حكومة كفاءات هي الحلّ ؟
لا نريد ان نرجم بالغيب ولكن نشك كثيرا في جدية هذا التمشي الذي فرض فقط نتيجة فشل 40 يوما كما أن هنالك شكوكا جدية حول قدرة الحبيب الجملي على قيادة هذه المرحلة القادمة بالشروط والمواصفات التي ذكرنا.. خاصة إذا ما علمنا بأن «حكومة كفاءات» كما أعلن عنها رئيس الحكومة المكلف يوم أمس كان هو المخطط «ج» لحركة النهضة ..
الإشكال الأساسي أننا نتفنن في إهدار الفرص نتيجة القراءات الخاطئة وتعنت من تصور نفسه قد فاز بالانتخابات التشريعية ..
وقديما قال العرب : الحيلة في ترك الحيل ..