التشريع في قبضة السياسيّ/الدينيّ/الأيديولوجيّ

إذا انطلقنا من فكرة متداولة بين التونسيين قوامها أنّ انتخابات 2019 تمّت على قاعدة التأديب والعقاب فإنّ المتوقّع هو تمكّن «الناجحين» في الانتخابات التشريعية

من استخلاص الدروس من التجارب السابقة، وسعيهم إلى تحسين الأداء والخطاب والاستراتيجيات وتفادي كلّ ما من شأنه أن يسيء إلى صورتهم وشعبيّتهم. ولكن يبدو أنّه ليس بالإمكان تصوّر كتل برلمانية قادرة في مستقبل الأيام، على أن تكون فاعلة ومسؤولة وفي خدمة الشعب بعيدا عن إملاءات الأيديولوجيا والمصالح الفردية أو الحزبية وغيرها.

فماذا ننتظر من حزب تقلّص عدد أتباعه بسبب اتّخاذه النهج «التحديثيّ والمدنيّ والتونسيّ»؟ هل يتمادى في إعلان مواقف تتماهى مع المنظومة الحقوقية (كاعتبار «الغنوشي» المثليّة اختيارا جنسيّا يندرج في إطار الحقوق الفردية ) ويستمرّ في استقطاب الشقراوات لابسات «الدجين الممزّق»؟ و....لا بالطبع ففي السياسة ينبغي أن نحسب كلّ خطوة وأن نقدّر النتائج المترتّبة عن اتّخاذ مواقف واختيارات معيّنة ولذا كان لابدّ من الإصغاء إلى أصوات شقّ «الصقور» والخضوع لمطالب «المناضلين» الذين عاشوا تجربة السجن والتعذيب وشتّان بين المنفى والنضال الـSoft وبين المواجهة على أرض الميدان مع النظام القمعيّ. ووفق هذا الطرح كان لابدّ من إيجاد جناح يعضد «النهضة» في عمليّة التحليق في سماء السلطة «إئتلاف الكرامة» لاسيما بعد أن كسر «النداء» وكان لابدّ من إحياء مفاهيم ومطالب توحي بأنّها مندرجة في إطار نمط الحكم الإسلاميّ.

وبناء على ذلك عدنا إلى مبدإ «الإسلام هو الحلّ». فكلّ مشاكل البلاد(البطالة، الهجرة اللانظاميّة، الجريمة، العنف...) وأزماتها الاقتصادية يمكن أن تحلّ، حسب النهضة وأتباعها ،باستحداث صناديق الزكاة. ومرّة أخرى ها نحن نرجع إلى نقاشات تدور في فلك الدينيّ فالزكاة ركن رئيسيّ في الإسلام، والأخوة في الإسلام تقتضي مؤازرة الفقراء والمساكين، والرحمة بين العباد مطلوبة، وعاد الحديث عن الحلال والحرام...

غير أنّ الملفت للانتباه هو النقاش الّذي جاء بعد نتائج التصويت إذ إنطلق عدد من النواب في الاستنجاد بالله: «سبحان الله، حسبنا الله ونعم الوكيل»، بينما انبرى أنصار تأسيس صندوق الزكاة في التخطيط لاستراتيجيات مستقبلية كاعتبار نور الدين الخادمي أنّ «الدوام ينقب الرخام » محاكيا بذلك الاستراتيجية البورقيبية. ولم يتوّقف الأمر عند هذا الحدث إذ ذهب عدد من المنضوين تحت حزب النهضة أو الشقّ الإسلامويّ إلى استرجاع حادثة منع عدد من القبائل منح الزكاة إلى أبي بكر الصديق. ونذهب إلى أنّ تفعيل الذاكرة الجمعية واسترجاع الأحداث التاريخية يقترن بحكم «تشريعي» وهو اعتبار من منع الزكاة مرتدّا يجب إقامة الحدّ عليه.

يغدو الاعتراض على مقترح صندوق الزكاة إنكارا لركن أساسيّ من أركان الإسلام ورفضا لتطهير النفس، ويستغلّ هذا التحليل لإصدار خطاب ترهيبيّ قبل التصويت ثمّ لإنتاج خطاب تكفيريّ بعد رفض المقترح (عادل العلمي وآخرون). وفي المقابل يتحوّل التصويت على المقترح إلى مثابة إعلان صريح على قبول تحكّم الحزب الفائز بامتياز «فرض ايديولوجية حزب على شعب كامل» ومنحه امتيازات لجهات متعدّدة لم يتّضح معيار اختيارها. جاء في المقترح أنّه يجب إنشاء هيئة لتسيير الصندوق متكوّنة من ممثل عن هياكل حكومية مالية و دينية (دار الإفتاء)، وجامع الزيتونة و خاصّة «جمعية علوم الزكاة».

وعندما يمتزج الدينيّ بالسياسيّ وبالايديولوجيّ تتغيّر ملامح الدولة من دولة لها واجبات تجاه مواطنيها بقطع النظر عن الجنس والعرق والدين ... إلى دولة المنّ على الفقراء (مثلما كان بن عليّ يفعل) ودولة التصدّق على الرعيّة، ويصبح واجب دفع الضرائب شكلا من أشكال الخضوع للحزب أو البحث عن الأجر والثواب.

ونقدّر أنّ المقترحات المرتبطة باستعادة أنموذج الدولة الإسلامية المتخيّلة ستتكرّر. فالخواء على المستوى السياسيّ، ومحدوديّة الثقافة السياسية يدفعان بفئة من النوّاب إلى الاحتماء بعباءة الإسلام لسدّ الثغرات وانتزاع الاعتراف، بينما يقبل البعض الآخر على استقطاب الغاضبين وإعادتهم إلى الحضيرة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115