الخطة السياسية والاقتصادية لفترة الحكم القادمة. فيبدو كل الماسكين بالسلطة تائهين وعاجزين على تقديم أي جواب جازم على أي استفسار متصل بالمهام المطروحة على مؤسسات الدولة في الإنطلاقة السياسية المنتظرة، وعن تحديد ملامح الحلول المقترحة لإخراج البلاد من الأوضاع المتردية التي تعيشها.
لا نقصد الشعارات والعموميات الّتي تتكرّر على كل لسان ، وإنّما نعني التصورات والمقترحات العملية في مختلف المجالات والّتي تضمن توفير الحاجيات لأوسع الفئات من مواطن شغل و مجالات إستثمار و أفضل الخدمات و متطلبات العيش الكريم ، وكذلك المناخ السليم في المجتمع وفي المعاملات مع الخارج.
فعلى مستوى رئاسة الجمهورية ، لم يظهر بعدُ أي خطاب دال على التوجهات الجديدة التي يتضمنها مشروع السيد قيس سعيد لتنفيذ وعوده و « إرادة الشعب» الّتي كانت ركيزة حملته الانتخابية . و حتى لا نرفع في سقف التوجهات ، نكتفي بما هو مطلوب في مجالات السياسة الخارجية والدفاع و الأمن الوطني ،و هي مجالات تدخل في صلاحيات رئاسة الجمهورية، والتي يكفي الإعلان عن المبادرات المتصلة بها، للتعرّف على التصورات الّتي تتجه النية إلى تطبيقها لطمأنة الرأي العام.
وقد كان بالإمكان تحسّس بعض التوجهات في ردود الفعل على بعض المستجدات ، مثل الإعتداء الصهيوني المتكرر و الوحشي على الشعب الفلسطيني ،أو المستجدات بخصوص الاتفاق اللّيبي- التركي المتصل بشرق البحر الأبيض المتوسط، والمجال البحري والجوي المتاخم لتونس، وغيرها من المسائل ذات الصلة بالدبلوماسية الاقتصادية وبأمن تونس واستقرارها.
لا نستعجل إتخاذ المواقف و لكن نريد أن نتعرّف على ترجمة الخطاب إلى توجهات، وبعث رسائل واضحة للمجتمع الدولي الّذي يتابع المسيرة التونسية و إلى الدول الشقيقة والصديقة الّتي لنا معها مصالح مشتركة، وتربطنا بها التزامات هامة، خاصة في المحيط المغاربي والأوروبي.
أمّا ما يحصل من أخذ و رد بخصوص تشكيل الحكومة المنتظرة الّتي كلفت حركة النهضة السيد الحبيب الجملي بتشكيلها ، فهو بمثابة «الحركة في نفس المكان» تُجهدُ المتحرّك ولكنه لا يتقدّم ، أي حركة و جمود في نفس الوقت : لقاءات و مشاورات و ذهاب وإياب ، دون أفكار و مقترحات جديدة ، والاكتفاء بتحريك الأسماء على رقعة جامدة .
هذه الحركة في نفس الموقع، قد تسترعي إهتمام الطامحين لمراكز السلطة، ولكنها تضاعف من التوتر الناشئ عن الإنتظار لدى عموم الناس ،و تزيد في تعطيل دواليب الدولة و في قلق الدوائر التي تتعامل معها تونس و تقلّص من فرص المعادلات الجدية وربما خسارة المواقع الّتي هي محل منافسة .
والأدهى أن منحى المشاورات لا يتجه نحو التجميع من أجل توحيد أفضل التصورات، وإنما يتجه نحو التكتل للتفرد بالسلطة، وخدمة الطرف الّذي يتراءى له أنه الأقوى، ونعني به حركة النهضة.
هذه الحركة المسكونة بالخوف من المحاسبة وحيازة المواقع الأمامية لترك منافذ التهرب من تحمّل المسؤولية ، ما تزال مصرّة على ارتكاب نفس الأخطاء ، رغم أنها تعلم أنها في خسارة مطردة لمؤيديها حسب نتائج مختلف المحطات الانتخابية، ولكنها بقت منخدعة بمرتبتها دون أن تهتمّ بحقيقة رصيدها.
هذا الخوف يلتقي مع الرغبة الجامحة في مسك السلطة و بالأحرى التفرد بمسك خيوطها، بدليل عدم قبول المشاركة الجادة للتيار الديمقراطي وحركة الشعب في ممارسة السلطة.
إن عامليْ الخوف و الرغبة في التفرد بالسلطة يجعلان حركة النهضة تسقط في التناقضات ، يقودانها إلى التمسك بالشيء ونقيضه في نفس الوقت ، لذلك تصبح غير مدركة «على أي ساق ترقص» كما يقال.
كل هذا يخلق لحركة النهضة تبرما في داخلها ، بدليل مواقف بعض قيادييها واستقالة أمينها العام، وتبرّما وغليانا في الأوساط العامّة بحكم دورها القيادي كحائزة على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية ومسؤوليتها في تشكيل الحكومة. كما أثقلت حركة النهضة موازينها بتحميل نفسها رئاسة مجلس نواب الشعب ، و دخلت كما كان مُتوقعا، في مصادمات مباشرة مع نواب الحزب الحر الدستوري، والأمر مرشح للتوسّع إذا ضربت حركة النهضة عرض الحائط بمواقف بقية الكتل، وفشلت في إيجاد أرضية تعامل مع معارضيها .
إن تعويل حركة النهضة على حزب قلب تونس على خلفية السعي لضمان الأغلبية العددية لنيل الحكومة المرتقبة لثقة البرلمان، هو حساب قصير النظر، لهشاشته، بإعتبار أن الأغلبية المطلوبة هي الأغلبية الّتي تشكل حزاما سياسيا حقيقيا وليست الأغلبية التي يعوّل عليها ظرفيا لتمرير الحكومة أو أي مشروع من المشاريع وذلك ينمّ أيضا عن قصر نظر، لآثاره المحتملة لدى الأتباع والموالين والحلفاء، خاصّة إذا علمنا أن خلفية هذا التحالف بالنسبة إلى السيد نبيل القروي هي التوقي من مخاطر معاداة حركة النهضة، وليس عن قناعة جازمة ، ممّا يُضفي عليه الظرفية، وامكانية انحلاله عندما تتوفر لزعيم قلب تونس «صمّامات الأمان».
هذه الاخطاء الّتي نُعاينُها ،نجد مقابلها أخطاء في صفوف المعارضة الّتي هي بصدد التشكل ، و هي ناجمة عن عدم الاتعاظ بالتجارب السابقة، ونعني بذلك تواصل التشرذم و عدم الالتفاف حول القواسم المشتركة للتشكيلات السياسية الّتي لها مشروع مخالف لمشروع حركة النهضة. هذا التشرذم نراه أحيانا يتضخم بالمغالاة في بعض المواقف المعارضة بالشكل الّذي ينفّر الرأي العام و يسيء للمؤسسات وربّما يزيد في العثرات وتفاقم الأخطاء ، بدل العمل على مزيد تكتيل النوايا الصادقة في التغيير وإخراج البلاد من أزمتها و دفعها نحو المسار الأكثر سلامة و نجاعة .