بإقتراح من حركة النهضة ، سلسلة لقاءات التعارف مع الأحزاب الفاعلة الّتي قبلت الدعوة، ومع الشخصيات الّتي رأى فائدة في التعرف على أرائها وتقييماتها لمعرفتها بالشأن السياسي العام.
هذه السلسة من اللّقاءات شملت مختلف الفعاليات والمجالات والأنشطة و هو ما يسمح بالقول بأنه أصبحت لرئيس الحكومة المكلّف، صورة مكتملة لمختلف الرؤى الّتي حرص على تدوينها، لتكون مرجعا له عند مقاربتها مع الخطوط العامّة الّتي سبق أن رسمها له مجلس شورى حركة النهضة.
لقاءات التعارف هذه حرص خلالها رئيس الحكومة المكلف على التأكيد على استقلاليته وعلى استعداده للتفاعل مع كل الأفكار وكذلك على وعيه بمتطلبات المرحلة المقبلة وما ينتظره من صعوبات و تحديات ، وسعى إلى طمأنة ملاقيه قدر الإمكان لكسب انطباع إيجابي تُجاههُ.
لذلك ينتظر في ما تبقى من وقت قبل حلول الأجل الأول لتشكيل الحكومة الجديدة ، أن يبدأ السيد الجملي التشاور حول التركيبة الّتي ستعرض على مجلس نواب الشعب لنيل الثقة.
وبالتزامن مع هذه اللّقاءات المعلنة لرئيس الحكومة المكلّف، ومشاورات الكواليس، يتواصل في الأثناء إستعراض مشروع الميزانية التي تفيد كل المؤشرات بأنها ستمّر دون نقاش أو تحوير ، لسببين إثنين على الأقل : أولهما اتجاه اهتمامات كل النواب إلى مجريات تشكيل الحكومة ، التّي لا تشغل الأحزاب المعنية فقط، بل تشغل كل الّذين يأنسون في أنفسهم «قدرة» على تقديم الإضافة . و ثانيهما ضيق الوقت للإطلاع و التثبت في محاور الميزانية ،مع غياب الدراية بمقتضيات التشريع و إنعدام الدربة لدى النواب الجدد الّذين لازالوا يتذوقون طعم «فوزهم» ومزهوون به، دون دراية بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وحقيقة المهام المطلوبة منهم .
إن محاور الميزانية و متطلبات العمل بأحكامها هي الّتي كان من المفترض أن تكون منطلق التشاور على مستقبل الحكومة الجديدة، وذلك يعني أن أساس التشاور لا يكون على ضبط الحقائب الوزارية و كيفية توزيعها وإسنادها ،و إنّما على تحديد الشخصيات القابلة بتطبيق السياسة الاقتصادية الملائمة وتنفيذ أحكام الميزانية، والقادرة على توفير مستلزماتها للخروج من الازمة الّتي تعيشها البلاد . و هذا يعني أيضا ، أنه يُفترضُ أن تكون الشخصيات المرشحة للحقائب الوزارية مطلعة على الميزانية، ومالكة لمفاتيح تنفيذها وعارفة بنواقصها و امكانيات تنقيحها لاحقا لملاءمتها مع برنامج كل وزارة.
ولكن من المؤكّد أن محتويات ميزانية الدولة والتحديات الّتي تنتظر الحكومة الجديدة خارج اهتمامات أغلبية النواب و ربّما حتى الطامحين للحصول على حقائب وزارية في حكومة أو إئتلاف تقوده حركة النهضة ، بإستثناء العموميات الّتي تمّ الحصول عليها بالسماع أو بعرضها.
فالميزانية المعروضة على مجلس نواب الشعب تم إعدادها من طرف الحكومة المتخلية، و بالكيفية الّتي اعتبرتها متماشية مع توجهاتها و مرضية للرأي لمن كان مؤهلا لفك رموزها وللتعليق عليها في مختلف المنابر الإعلامية قبل الانتخابات، و بالاعتماد على مؤشرات قدّمت على أنها مطمئنة.
ولا يخفى على أحد، أن القبول بنفس الميزانية و التعهد بما جاء فيها يعني، أن الأمر سيستمرّ على ما هو عليه، وأن نفس منهج الحكم سيتواصل بنفس الأفكار و التوجهات . و بالتالي فإن تقيّد رئيس الحكومة المكلف بما قبله ضمنيا من شروط
مجلس شورى حركة النهضة، لن يسمح له بتقديم الحلول، بل سيكون منساقا لتكريس الاستمرارية. وسيكون الأمر كذلك بالنسبة للذين سيقبلون حقائب وزارية في الحكومة الجديدة، إذ لن يكون لهم هامش اجتهاد إذا أخذنا بحرفية صرامة لهجة مجلس الشورى الّذي أعطى الانطباع بأنه حزم أمره على الأخذ بزمام الأمور بنفسه .و هو ما جعل البعض يدعون إلى تحميل النهضة مسؤولية تشكيل حكومة تنفرد بتحديد تركيبتها و خياراتها.
فالواضح إذن أنه لا وجود لأية رؤيا استراتيجية لتجاوز المصاعب الّتي تعيشها البلاد، ولا تمتلك النهضة وحلفاؤها الحاليون والمحتملون برنامجا اقتصاديا واجتماعيا واضح المعالم لمجابهة مقتضيات المرحلة المقبلة الّتي تتلخّص في النهاية في كيفية تحديد موارد جديدة للدولة.
والعبرة ليست بتشكيل الحكومة وتوزيع حقائبها بين الفائزين الأوائل، أو التعلّل بالبحث عن كفاءات مقّيدة بخيارات مجلس الشورى، أو تقديم «موالين» من الصفوف الخلفية على أنها مستقلة ، بل العبرة بضبط أولويات واضحة وعاجلة و مشاريع مفصلة تتعهد الحكومة بتنفيذها ضمن استراتيجية تبني للمستقبل.