في جلّ بلدان العالم الديمقراطي ويعود ذلك بالأساس إلى مسألة أساسية : كثرة وعود السياسيين وكثرة الخُلف فيها، إلى أن أضحى شخص كتشرشل يكاد يكون الاستثناء الوحيد – أو على الأقل الأشهر – لهذه القاعدة لأنه وعد شعبه بالعرق والدم، فجازاه شعبه بأن هزمه وهزم حزبه في الانتخابات التشريعية لسنة 1945، أي سنة انتصار بريطانيا العظمى والدول الحليفة في الحرب العالمية الثانية.. وكأن الشعوب تريد أن تقول بأنها تفضل الوعود الجميلة حتى عندما تكون كاذبة ..
سياسيونا ليسوا استثناء فجل وعود هم الجميلة أو الصارمة كانت إلى حد الآن مجرد أداة انتخابية فقط ليس إلا، من الازدهار والرقي وأرقام النمو الخيالية إلى كذلك طبيعة التحالفات إذ سرعان ما تحول السلطة العدو اللدود إلى صديق حميم..
وهكذا سيكون الأمر مع وعود الحزبين الأولين بأنهما لا ولن يتحالفا ولن يمد الواحد منهما يده إلى الآخر فقلب تونس حزب تحوم حوله شبهات فساد بالنسبة للنهضة والنهضة حزب اسلاموي مسؤول في منظومة الفشل بالنسبة لقلب تونس والتصريحات التي تؤكد استحالة التحالف بينهما لا تكاد تحصى.. ولكن وكما اشرنا إلى ذلك حتى قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات بأن التحالف بين هذين الحزبين هو المآل المحتوم للعلاقة بينهما.
ما الذي يحتم هذه العلاقة ؟ ولم لا نصدق تعهدات الطرفين بأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان؟
معطيات عديدة تجعلنا نعتقد أن اللاءات المرفوعة من كلا الجانبين خلال الحملة الانتخابية غير جدية وأن هذين الحزبين لا يمكن لهما إلا أن يشتغلا مع بعض.
المعطى الأولي والأساسي هو أن «خط الثورة» الذي رسمته حركة النهضة ووضعت فيه نفسها وائتلاف الكرامة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب هو خط وهمي، بل انتهازي الى حد كبير أريد منه فقط حشد أقصى عدد ممكن من الأنصار والأصوات بعد هزيمة الحركة الإسلامية في الانتخابات الرئاسية حتى لا يتقدم عليها قلب تونس في التشريعية وحتى تشكل نوعا من «التصويت» المفيد ضد ما كانت تسميه بـ«حزب المقرونة» وبالحزب الاستئصالي (الدستوري الحر) وكانت عين قيادات النهضة على عمليات سبر آراء نوايا التصويت واليد تعزف بقوة على «وتر» خط الثورة فقط للتقدم على قلب تونس ولمسك المبادرة السياسية بعد هزيمة مرشح النهضة وخروجه من الدور الأول للرئاسية.
العنصر الثاني هو صعوبة العمل المشترك والدائم مع أحزاب «الصف الثوري» وخاصة الشعب بداية والتيار الديمقراطي ثانية، إذ تعلم قيادة النهضة قبل إجراء الانتخابات أن السياسات العمومية التي ستقترحها ستكون كلها في إطار تواصل سياسات حكومة الشاهد ،فالنهضة تأمل فقط أن تكون قيادتها لدفة الحكم أكثر قدرة على الانجاز وتحقيق بعض المكاسب الاجتماعية للفئات الفقيرة والهشة فقط لا غير.. فالنهضة لا تنوي تغيير أولويات الحكم ولا العلاقات الدولية ولا الشراكات الاقتصادية ولا التمرد على الجهات المانحة وخاصة صندوق النقد الدولي كما أن «الحرب على الفساد» التي بشرت بها لن تكون في قطيعة مع ما نشهده اليوم بل تقديم بعض الملفات إلى القضاء والتمسك بهذا المحور في الخطاب السياسي. والنهضة لا تريد حربا على الفساد قد تخيف وسط الأعمال ،كما أن الحركة الإسلامية لا تنوي الإقدام على سياسة تأميم أو ضخ السيولة في الأجور أو في المؤسسات العمومية وهذا سيجعل من تحالفها – لو حصل – مع التيار وحركة الشعب قصير المدى وغير قادر على الاستمرار، بل لن يصمد سنة واحدة في أفضل الأحوال.
ثم إن ائتلاف الكرامة لا يصلح بالنسبة للنهضة إلا كقوة اسناد لا كشريك فعلي في الحكم فالحركة الاسلامية حريصة على علاقة غير عدائية مع اتحاد الشغل ومواصلة التنسيق والتشاور مع الاتحاد الأوروبي واهم الدول الأوروبية وحكومة يشارك فيها بوضوح ائتلاف الكرامة قد تكون عبءا على رئيس الحكومة وعلى حركة النهضة على حد سواء.
كل هذه العناصر تجعل من التقارب مع قلب تونس امرا محتوما هذا لو أرادت حركة النهضة الحكم خلال هذه العهدة الانتخابية فبنوابها الاثنين والخمسين وبحليفها غير المشروط ائتلاف الكرامة ونوابه الواحد والعشرين لا تصل النهضة وحليفها إلا إلى ثلث النواب فقط لا غير وهي محتاجة إلى كتلة وازنة إضافية لا تضطر للتفاوض معها في كل صغيرة وكبيرة، وهذا ما حصل فعلا في انتخاب رئيس مجلس نواب الشعب حيث رأينا الحلقة الاولى من التقارب بين الخصمين اللدودين.
فالايجابي بالنسبة للنهضة في قلب تونس هو كونها كتلة تفوق عدديا حليفيها المفترضين المشاكسين التيار وحركة الشعب وفي صورة وجود اتفاق إطاري عام بين النهضة وقلب تونس سيكون تصويت هذا الأخير مضمونا للحكومة على امتداد خماسية كاملة دون الحاجة الى مفاوضات عسيرة او تنازلات كبيرة..
فلو أرادت النهضة الحكم دون الاضطرار الى إدارة معقدة ومستمرة ومتوترة للحزام السياسي الداعم لحكومة الحبيب الجملي فعليها ضرورة التفاهم مع حزب قلب تونس حتى تأمن من عمليات إسقاط الحكومة او أضعافها او عدم قدرتها على تمرير القوانين الأساسية.. وقد يتحول هذا التفاهم الى شراكة فعلية وواضحة في الحكم لو اعلن حزبا الصف الثوري التيار وحركة الشعب، عدم مشاركتهما في التحالف الحاكم اليوم او بعد فترة من الحكم المشترك، والتنازل الوحيد الذي ستقدمه حركة النهضة لقلب تونس هو تنازل رمزي يكمن في تفسير هذا التقارب لقياداتها الوسطى ولقاعدتها ،ويبدو أن عناصر التفسير متوفرة وقوامها : هذا التقارب اضطرتنا إليه الأحزاب المحسوبة على الصف الثوري..
اما بالنسبة لقلب تونس فبعد هزيمته في الدور الثاني للرئاسية وتأخره عن حركة النهضة فالخطر كل الخطر بالنسبة اليه والى رئيسه هو أن يكون على هامش الحياة السياسية وان تتعرض كتلته الى ضغوطات شتى وان تتواصل الملفات القضائية ضد رئيسه وبعض قيادييه..
كل ما يريده قلب تونس خلال هذه الخماسية هو تامين وجوده السياسي وإدراجه، ولو بنسب متفاوتة في الحياة السياسية..
وما نلاحظه أن هذا «التطبيع» قد بدا بالتفاهم بين النهضة وقلب تونس حول رئاسة المجلس ونيابته وكذلك في تعهد راشد الغنوشي بمنع السياحة الحزبية ثم يوم أمس بقبول رئيس الحكومة المكلف وفدا من قلب تونس لمدة ساعتين وكان هذا هو لقائه الأول مع ممثلي الأحزاب والكتل بما يشير إلى ان إقصاء قلب تونس من مشاورات تشكيل الحكومة إنما هو مجرد شعار تلقي به قيادات النهضة للتعتيم على الادارج التدريجي والمتصاعد لقلب تونس ضمن أغلبية الحكم التي تترأسها حركة النهضة..
نحن الآن أمام سيناريو معكوس للخماسية الفارطة حيث مثل نداء تونس ورئيسه الفقيد الباجي قائد السبسي المظلة التي استظلت بها حركة النهضة مقابل إسناد حكومة الصيد الأولى.. أما اليوم فكأننا، أمام مظلة نهضوية لقلب تونس مقابل إسناد في البرلمان للحكومة ولخياراتها الكبرى.. فعلا الوعود لا تلزم الا من يصدقها..