ينصهر شخصه في مؤسسّة رئاسة الجمهورية الّتي تنزع عنه جانبا من حريته الشخصية وسلوكه العادي ليصبح مقيّدا بضوابط مهامه و نواميسها و بأحكام المسؤولية الملقاة على عاتقه .
هذا المنعرج الاول في واقع الرئيس الجديد ،لن يكون سهل التخطّي بإعتبار أنه لم يسبق له تقلد مناصب سياسية أو إدارة هياكل كبري في الإدارة والدولة أو التعامل الدبلوماسي المنظم. هذا الواقع الجديد سيفرض عليه تغيير نمط عيشه اليومي و تغيير أسلوب تعامله مع المحيطين به و حتى مع المؤيّدين له والمقربين منه، و هي أملاءات الوظيفة المفترضة كما في أي وظيفة كانت.
هذا التغيير سيجعل الرئيس منذ البداية مجبرا على إنتقاء الكفاءات التي ستساعده على أداء مهامه، والتي سترتب له خطط العمل و التصورات الّتي سيسعى إلى تطبيقها. هذه المهمة المتمثلة في انتقاء المستشارين لن تكون هي الأخرى يسيرة، خاصة وأن الكل يعرف مدى خطورة و أهمية دور المستشارين الّذين كثيرا ما يتسببون في إرتكاب الأخطاء، والضلوع في التجاوزات ونسج العلاقات الخاصة الّتي كثيرا ما تحيد عن الخط الّذي يريد رئيس الدولة سلوكه. والتجربة التونسية كشفت عن العديد من الحالات الّتي قادت المسؤولين والزعماء إلى أخطاء مدمّرة، لذلك لا يكفي البحث عن الثقات ، الّذين يكونون عادة من المقرّبين، بل أن الأمر يتطلب البحث عن الكفاءات الوطنية في كل المجالات لتأمين التعامل الصحيح مع الملفات و الأحداث والمستجدات.
فالعمل السياسي والتعامل اليومي مع الأحداث بالسرعة والنجاعة المطلوبتين ، ليس تعاملا مع البحوث أو الأوراق و ليس جدلا نظريا حول السياسة والإقتصاد ، أو النظر في مقاربات مختلفة لتحليلها و نقدها ، و إنما هو مجابهة مباشرة لمتطلبات الأوضاع و وضع طرق معالجة مناسبة لتخطي الصعوبات والأزمات ولإيجاد الحلول لكل الإشكاليات المطروحة بدراية وتبصّر.
لقد سبقت الإشارة في افتتاحية الأحد الماضي إلى أن السيد قيس سعيد تحصل على أغلبية كبيرة من خلال الانتخابات «بلا وعود ، فأصبحت تلك الأغلبية هي الحاملة للوعود ،و الحالمة بتطبيق منظومة جديدة تقوّض القديم على أمل أن تجد السبل لوضع البديل».
هذه الأغلبية من الناخبين الذين صوتوا للأستاذ سعيد ، ستلتحق بهم الأغلبية الصامتة الّتي لم تكن راضية على السياسات السابقة، والّتي قد يدغدغها أمل التغيير، ستكون متعطّشة للتعرّف على بوادر التحوّل الملموس في الحياة اليومية بداية من تطبيق القانون على الجميع و المقاومة الفعلية للفساد ونهاية بتحسين ظروف العيش و الحد من البطالة و ارساء السلم الاجتماعية وإرساء قيم العدل.
إن خطاب الأستاذ سعيد إبان ادائه اليمين الدستورية ،لامس الخطوط العامة لمواقفه المعلنة و لكنه لم يضع النقاط على الأحرف كما يقال، لأنه لا يملك في الحقيقة الآليات الّتي تمكنه من وضع تلك النقاط ، و هو يعلم أن كل الأمور لا تتوقف على إرادته في ظل النظام السياسي الحالي، بل أن كل القوانين تمر عبر مجلس نواب الشعب بما في ذلك مبادراته التشريعية. وكما سبق أن أشرنا فإن تغيير المنظومة الحالية وإدخال تعديلات على الدستور وبقية التشريعات الأساسية ليست مسألة هيّنة أو سهلة كما يرُوّجُ لذلك.
لنقل كما قيل، أن الأستاذ سعيد زرع الأمل بدغدغته للشعور العام ، و لكن يبقى هذا في إطار الخطاب الموجه للشعب الّذي يترأس دولته ، غير أن المنتظر على محك الواقع ، هو كيفية الإستجابة لتطلعات هذا الشعب ، و كيفية توفير الامكانيات لتكريس الشعارات و تنفيذ البرامج الاقتصادية والاجتماعية، خاصة وأن رئيس الدولة تبنى سقفا عاليا من إنتظارات الناخبين.
وقبل أن نتحدّث عن المائة يوم الممنوحة لكل ماسك جديد للسلطة لبداية الحكم على أدائه، تنتظر الأستاذ سعيد مخرجات تشكيل الحكومة الّني ستتولّى معه الاضطلاع بمهام السلطة التنفيذية . رغم أنه غير معني مباشرة بتشكيل هذه الحكومة، فإن الفريق الّذي سيمارس معه صلاحيات ممارسة السلطة، يعنيه هذا التشكيل خاصة فيما يتعلّق بالعدل و الداخلية، و الإستراتيجية الاقتصادية الّتي ستكون سنده لتنفيذ تصوراته في التنمية الشاملة.
تشكيل هذه الحكومة سيكون أول امتحان للفريق الرئاسي الجديد ، الّذي سيكون إزاء حركة ماهرة في المناورة ، والتي تريد أن تكون دائما «داخلة في الربح خارجة من الخسارة» كما يقال، ألا وهي حركة النهضة الّتي حازت على أغلبية «برلمانية ملغمّة» والّتي سيكون لها اختيار رئيس الحكومة الّذي سيشكّل الحكومة الجديدة.
وسواء أشكلت الحركة الحكومة بنفسها - وهو ما يقتضيه منطق القانون - أو لجأت لوضع واجهة تحت أي تسمية كانت، فإن مهمّة رئيس الجمهورية ستكون هي الأخرى ملغمة في التعامل مع هذه الحركة والمتحالفين معها إذا كان غير مهادن لها. هذا هو الوجه الآخر الّذي يكدّر وجه عملة الأمل الّذي زرعه الأستاذ سعيد. ولن يطول الانتظار لمعرفة حقيقة المسار...