هي أحكام القانون الّذي وُضع لضمان تمثيل الأقليات، فقلب الموازين أنقذ البعض ومحى البعض الآخر لنكتشف أن الأوائل في التشريعية حازوا المقاعد بأكبر البقايا، ( النهضة 23، قلب تونس 20، ائتلاف الكرامة 20، التيار الديمقراطي 20، الحر الدستوري 20، حركة الشعب 15 تحيا تونس 13)، في حين أن إرادة االشعب الّذي كان يُقترضُ أن يعبّرَ عنها البرلمانيون آلت لمن لا آلية له : إنها مخرجات معضلة الاستحقاقات الإنتخابية التي عرفتها تونس في انتخابات 2019.
انتخابات تشريعية ذات تقاطعات بدت فيها الأصوات مشتتة لإفراز كتل فرضت نفسها بكل الطرق تحت أنظار عين مغلقة و أخرى مفتوحة، ولكن قبلتها هياكل التنظيم والرقابة ، فأفرزت المشهد النيابي الّذي تحوّل مباشرة إلى البحث عن أغلبية تُكوّن حكومة صعبة التشكّل سيجد الحائزون على المقاعد البرلمانية الجدد أنفسهم إزاءها ، في أول امتحان في رسم معالم المرحلة المقبلة.
وانتخابات رئاسية حصد فيها السيد قيس سعيد أغلبية كبيرة بلا وعود، فأصبحت تلك الأغلبية هي الحاملة للوعود، و الحالمة بتطبيق منظومة جديدة تقوّض القديم على أمل أن تجد السبل لوضع البديل.
ولكن يشكل إعلان السيد قيس سعيد بالتمسك بالقوانين و بأحكام الدستور، تصريحا بأن ذلك سيتم في إطار أحكام المنظومة القانونية الموجودة و ليس خارجها ، خلافا لتغريد جزء من أتباعه بأن حيازة الشرعية الشعبية بالحصول على نسبة تفوق ما تحصل عليه المنتخبون الجدد في مجلس نواب الشعب، تجعلهم في حل من أي ضوابط.
لذلك ينتظر الجميع الموقف الرسمي للسيد قيس سعيد في خطوطه العريضة، في أول تواصل رسمي مع التونسيين عند تنصيبه رئيسا للجمهورية و أدائه لليمين ،لذلك لا فائدة من الحكم على النوايا قبل مباشرة مهامه و الإفصاح عن مواقفه العملية بعيدا عن شعارات الحملة الانتخابية والمواقف النظرية .
ولكن التخوّف ممّا يتبناه جزء هام من الناخبين الّذين صوّتوا لسعيد مشروع ، لأن لهم قراءة خاصة لمفهوم الشرعية نستشفها من التعبيرات الّتي بدأ المتشدّدون و المغالون من خارج الأنصار الحقيقيين لسعيد الّذين ركبوا الفوز واستغلوه في الانتخابات التشريعية و هم بصدد الحشد حوله لفرض سلطة جديدة بمفهوم خاص بهم وليس بالمفهوم النظري الّذي يتبناه سعيد في مشروعه المعلن . لذلك يتابع التونسيون بانشغال التصريحات غير المسؤولة واستهداف حرية التعبير و الرأي رغم خطاب التهدئة الصادر عن الرئيس المنتخب ، الذي بدأ يقف على صعوبة المهام التي تنتظره. فخطاب سعيد لا يكفر ولا يقصي ولا يتبنى الجهاد المقدس، و لكن لا يملك أدوات و امكانيات و مخرجات تبني فكرة التغيير أو التعديل و ليست لديه ضمانات نجاحها عمليا و تأمين عدم افتكاكها منه ممّن يحلمون بتغيير النظام و أسلمته .
لا نقّلل من صلاحيات رئيس الجمهورية و لكن لا بد من الإشارة بأن تغيير المنظومة الحالية وإدخال تعديلات على الدستور و بقية التشريعات الأساسية ليست مسألة هيّنة أو سهلة ،و تلويح البعض بآلية الإستفتاء تنمّ عن غياب قراءة شاملة ومتأنية للدستور.
في انتظار كل ذلك لا مفر من الإقرار بفشل المنظومة المتخلية في سياسيتها ،سواء بالنسبة لمن كان يمارس الحكم أو لمن كان يتمركز في المعارضة . و لا بد من تذكير قيادي حركة النهضة و نداء تونس وتحيا تونس و كل من شارك في الحكم، بأنهم بقدر ما فشلوا في إيجاد الحلول لمجابهة الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، بقدر ما نجحوا في الدفع نحو تشكل منظومة تتجاوزهم.
فأغلبية المقاعد الّتي حازتها حركة النهضة ، لا يمكن أن تغطي هزيمتها ،و محاولة ركوب فوز السيد قيس سعيد ، للإيهام بأنها ساهمت في فوزه، تكذبه قراءة الأرقام الّتي تكشف بجلاء بأن هذا الفوز الانتخابي كان سيحصل بدعمها أو بدونه، وما عليها إلاّ الإقرار بحجمها الحقيقي في القاعدة الانتخابية ،و يعرف الخاص والعام مساهمتها بقسط وافر في تردي الأوضاع ، و بالتالي ليس لها أن تتنصل من مسؤوليتها و تقفز إلى الأمام بالتهديد والوعيد بما قد يتسبب في انهيارها.
كما أن ما حازه حزب تحيا تونس بأكبر البقايا ، يكشف فشل قيادته و مؤيديها في إقناع الناخبين بجدارتهم في مواصلة ممارسة الحكم ، و هو أمر لم يفاجئنا ، بل كان متوقعا و قد سبق أن كتبنا - بما أغضب بعضهم- بأن حجم الكتلة الّتي شكلوها في مجلس نواب الشعب لا تعني أنهم يملكون القاعدة الّتي كانت تمثلها تلك الكتلة.
نفس القول ينطبق على المعارضة ، الّتي كانت تبني معارضتها على رد الفعل على الماسكين بالسلطة و إنتقادها دون أن تقدّم اي مشروع أو تصورات مقنعة و دون النزول عن برجها العاجي و الالتحام بالقواعد الشعبية والشباب، و لم تستعض بالنتائج السابقة في الاستحققات الانتخابية . و لم يهتم أحد بما كان يقال بأنه لا يمكن أن نبني برنامجا على معاداة حركة النهضة فقط ، و لا يمكن أن نضع برنامجا مبنيا على ردود الفعل على موقف من هم في السلطة ، دون صياغة بديل مقنع .
و خلاصة القول، أنه من السهل رفع سقف الشعارت و لكن من الصعب تكريسها على أرض الواقع ،وإن كان للأمس أمر ، فإن للغد انتظارات حارقة جديدة يصعب التكهن بمخرجاتها .