مشاعر الغبطة والسرور والبهجة... وننقد حالة عسر «عقلنة» المشاعر، (إن تصوّرنا أنّه يمكن عقلنتها)، وأشكال تبرير حالات الانفلات. فبعد أن صار الفرح عزيزا على التونسيين الذين عاشوا طيلة سنين على وقع الإحباط واليأس والتشاؤم... صار الهتاف والغناء والصراخ وحتى العنف ... مجرّد تعبيرات «حدّية» تكشف عن تأثير القهر والغبن ووأد الفرحة في سلوك التونسيين.
ولكن يبقى الأهمّ من كلّ خطابات رصد الانفعالات وطرق التعبير «الهمجيّة» التأمّل في مدى قبول فئات أخرى من التونسيين بنجاح المترشّح قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية إذ يُتبيّن نجاح التجربة الديمقراطية من خلال ردود من لم يصوّتوا للرئيس الجديد وأولائك الّذين اعتبروا نبيل القروي منذ لحظة خروجه من السجن «رئيسنا» notre président' فراحوا ينشرون صورة رسموها له وهو في «حلّة الملك» وانساقوا وراء هواماتهم وأحلامهم.
تنمّ ردود فعل هذه الفئات «الغاضبة» والمستاءة من سيطرة «الرجعيّة» و«ا'لظلامية» وعودة «النهضة» إلى سدّة الحكم عن أزمة حقيقيّة في مستوى التمثّلات: les représentations: تمثّل الديمقراطيّة والممارسات التي تقوم عليها والعمل السياسيّ، وفي مستوى تمثّل الآخر/المغاير/المختلف...
ومن علامات هذا المأزق الفعليّ هيمنة حالة من العمى الإدراكي تجعل الجموع غير قادرة على رؤية الواقع في دينامكيته وجدليته، مستمرّة في التعنّت والرفض، والمراوغة وصناعة الأعداء وما أكثرهم. فأن تواصل ترهيب الناس «بحكم الإخوان» معناه أنّك لازلت تكرّر نفس المبررات «القديمة» ولم تجد وسائل إقناع جديدة. وأن تستمرّ في الدعوة إلى «كنس النهضة واستئصالها وتطهير تونس منها»، معناه أنّك تبيع الأوهام وتزيّف الوعي وتتاجر وليست التجارة بالدين هي الوسيلة الممكنة للتجييش إذ نجد أشكالا أخرى بالمتاجرة بالعواطف، وتمثيل الحداثة، والعزف على وتيرة «النمط المهدّد بالزوال»، وامتيازات النخب، ومصالح الطبقة، و«البلدية» .... وليست ممارسة العنف تجاه من يختلف عنك في التصوّر و«تخوينه» واتهامه بـ«قلبان الفيستة» إن حرّر نفسه من المسلّمات وراجع منطلقاته إلاّ علامة على عسر التكيّف مع التحوّلات التي يعيشها المجتمع التونسي وتفضيل الأوهام على مواجهة الواقع المتغيّر. وقد بات جليّا أنّ لكلّ فريق ثوابته وقناعاته التي لا يقبل التزحزح عنها حتى بعد اختلاف السياقات.
لقد تضاعفت الانقسامات ولم يعد التونسيون يتحمّلون تبعات الاستقطاب الحديّ الذي عاشوه بعد 2011 فقط، بل صار لزاما عليهم العيش على وقع نظام من التضاد تجلّت ملامحه في الدور الأوّل من الانتخابات بين أنصار يوسف الشاهد/الزبيدي/القروي/مورو/.... ليتحوّل بعد ذلك إلى استقطاب ثنائي مضاعف بين أنصار نبيل القروي/وأنصار قيس سعيد، من جهة، وبين «ممثّلي الحداثة» و«ممثلي الرجعيّة»، من جهة أخرى . ولكن كيف يمكن الخروج من هذا الوضع وتجميع التونسيين حول مشروع مشترك «يجدون أنفسهم فيه» ويعكس توقعاتهم؟ وهل بإمكان «الساسة الجدد» أن يصوغوا خطابا مؤلّفا بين «الإخوة الأعداء؟
لقد سمحت «صدمة الانتخابات» للتونسيين باكتشاف الفجوات: الفجوة بين المتحكّمين في حملات التعبئة الإعلامية والحالمين بالنصر والواثقين من جني ثمار «تكتيك» توظيف النساء، والتلاعب بالعقول وتزييف الوعي والاستثمار في الأميّة، والفقر والبؤس... وبين التحرّكات على أرض الميدان غير المرئية تلك التي تقودها فئة لا تملك سلطة المال والإعلام ولا ترسانة الخبراء في إدارة الحملات ولكنّها قادرة ، متى أرادت، أن تفعل في الواقع... وليس استهزاء النخب بتصوّرات «الخصوم» ، وهم في الأغلب شباب أو من عامّة الناس، وتحقير كلّ مبادرة تصدر عنهم إلاّ حجّة على تمثّل معطوب للذوات فهي الوحيدة التي تحتكر التجربة، والحكمة والخبرة ...
ولعلّ الأسئلة المطروحة اليوم على جميع شرائح التونسيين : كيف يمكن لكلّ فئة أن تساهم في البناء ، من موقع المسؤوليّة؟ كيف يمكن لكلّ فريق أن يرتقي بسلوكه تجاه من لا يتبنّى توجهاته؟ كيف لنا أن نعيش معا باختلافاتنا وتعدّد هوياتنا؟ كيف يمكن أن نطوّر فهمنا للمواطنة على قاعدة تكريس المساواة والكرامة والحرية والعدالة للجميع بلا استثناء؟