قيس سعيد رئيسا للجمهورية: المعاني والتحديات

فوز قيس سعيد في سباق الرئاسية لم يكن مفاجأة لأحد من المتابعين للحياة السياسية إذ منذ الدور الأول كانت كل عمليات

سبر الآراء تعطيه تقدما واضحا على منافسيه في حدود ثلثي الأصوات على الأقل ..ولكن المفاجأة الكبرى في هذا الدور الثاني هي نسبة المشاركة الاستثنائية التي بلغت %55 وهي أفضل نسبة في هذا الماراطون الانتخابي (6 نقاط أكثر من الدور الأول و13 نقطة أكثر من التشريعية ) وإذا أخذنا بعين الاعتبار عدد المقترعين (3892085 ناخب) فإننا نكون أمام ثاني أهم إقبال على صناديق الاقتراع منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011..

لقد تحصل قيس سعيد على 2.777.931 صوتا وهي أعلى نسبة على الإطلاق في كل الانتخابات لمرشح أو قائمة ولقد حصل سعيد على أكثر من مليون صوت من المغفور له الباجي قائد السبسي في انتخابات الدور الثاني للرئاسية في ديسمبر 2014.

وهذا العدد من الأصوات يكاد يضاهي عدد الناخبين في التشريعية الفارطة .

قيس سعيد،الرئيس المنتخب، غير مدين لأية جهة كانت بانتخابه،لا أنصاره الذين لم يبلغ عددهم الا حوالي 600.000 ألف على الأكثر ولا الأحزاب السياسية مجتمعة،ولا الشباب كذلك..قيس سعيد تقدم في كل الفئات والجهات والأصناف بما يجعل انتصاره كاملا وشاملا وفوق كل الاعتبارات الفئوية والحزبية والجهوية ..

واللافت للنظر هو أنها أول مرة يكون فيه انتصار شخص او قائمة بمثل هذا الحجم والعمق والشمول وذلك لان التصويت لقيس سعيد كان تصويتا اخلاقيا بالأساس..تصويت لقيم لم يجدها الناخبون عند كل الطبقة السياسية مجتمعة او متفرقة ..قيم نظافة اليد والزهد في زينة الدنيا والوفاء للمبادئ..إنها السياسة في معناها النبيل ،سياسة في سبيل الناس لا في سبيل القبيلة أو العشيرة أو الحزب أو العائلة ..

كما أن الذين صوتوا لقيس سعيد لم يصوتوا فقط ضد الأحزاب وانعدام القيم وسريان الفساد بل صوتوا أيضا ضد ما يمكن أن نسميه بالنخب المتنفذة (Establishment) وضد كل من يعتقد من بعض وسائل الإعلام الجماهيرية انه بمقدوره الاطاحة بالملوك او صناعتهم ..

ولكن هذا التصويت الكثيف وهذا الطلب الجماعي لسياسة أكثر نظافة وأخلاقا وتعففا لا يعطي بالضرورة صكا على بياض للرئيس المنتخب الجديد..

فالمصوتات والمصوتون لقيس سعيد يحملون هموما شتى والخيط الجامع بينهم هو المطالبة بتحسين سريع وملموس لمحيط ومناخ عيشهم الاقتصادي والاجتماعي والتنموي بصفة أعم ..هذا العدد الهائل من التونسيات والتونسيين لم يجتمعوا حول قيس سعيد لتغير النظام السياسي او تغيير هندسة الحوكمة من ديمقراطية تمثيلية إلى أخرى تمزج بين التمثيلية والمباشرة وتقلب هرم السلطة والاختيار وتضع الأحزاب والائتلافات بين قوسين ..قد يكون هذا هو الهاجس الأول لأنصار قيس سعيد ولكن هؤلاء يعدون ببعض مئات الآلاف على أقصى تقدير بينما هواجس ثلاثة أرباع ناخبي الرئيس الجديد في الدور الثاني ينتظرون منه تحسنا واضحا لأوضاعهم المادية لا لكيفية اختيار من يحكمهم في المناسبات الانتخابية القادمة ..

والإشكال أن الرئيس المنتخب لا يملك آليات تحسين أوضاع الناس ولا حتى آليات التغيير الجوهري للنظام السياسي ..فهذه الشرعية الشعبية الكبرى لا تسمح له بانجاز شيء يذكر في هذين المجالين الأساسيين خاصة إذا ما تأخر تشكيل الحكومة او صاحبته خلافات وصراعات تجعل من وجود أغلبية مستقرة أمرا مستحيلا ..

فالرئيس فرد فوق الأحزاب ويحظى بدعم شعبي كبير لانجاز أمرين لم يعد بأهمهما بوضوح والبرلمان مشتت ومشكل أساسا من أحزاب وائتلافات متنافرة ولا وجود فيه لأنصار فعليين وتامين لرئيس الدولة المنتخب .

صحيح انه بإمكان قيس سعيد ان يستغل هذه الشرعية الشعبية الواسعة ليضع بصمة سياسية على المآلات التشريعية ولكنه سيجد أحزابا خبرت وتمرست على السياسة التي يرفض هو الانغماس فيها وسوف نرى كيف ستكون هذه العلاقة الغريبة والمعقدة بين هاتين المؤسستين الدستوريتين..

ولكن هنالك مخاطر أخرى تحدق بالرئيس المنتخب وأولها وأهمها هو اعتقاد بعض التنظيمات والجهات المتطرفة أنها صاحبة فضل على قيس سعيد وان انتصاره هو انتصارها كذلك وأنها قد أخذت نوعا من التفويض الشعبي لتمارس لعبتها المفضلة وهي العنف اللفظي والمادي ضد من تعتبرهم» أعداء الثورة» تماما كما كانت تصنع روابط حماية الثورة سيئة الذكر ..

كما لا ينبغي أن ينسى قيس سعيد أن أكثر من مليون تونسي قد صوتوا لمنافسه نبيل القروي وانه ربما لو كان أمام منافس آخر لكان انتصاره اقل وضوحا مما حصل ،أي أن عدة مئات الآلاف من الذين صوتوا له إنما فعلوا ذلك أساسا ضد منافسه وما يمثله لا لفائدته هو ولا لفائدة المشروع السياسي المبهم إلى حد ما والذي يتقدم به للتونسيين. بعض التونسيين يخشون –خطأ- كلمة الثورة وهم لا يميزون بينها وبين بعض ادعيائها،فالثورة حاملة لكل القيم الايجابية من حريات فردية وجماعية وديمقراطية شفافة ومحاربة للفساد وتحرير كل الطاقات والعقول من عقالها وهي تعني كذلك إعادة تشغيل المصعد الاجتماعي والانطلاق دوما من تكافؤ الفرص بين كل أبنائنا وبناتنا ومقاومة التهميش والفقر لا بالإعانات الخيرية ،رغم ضرورتها العاجلة في كل الأحوال،ولكن بسياسات عمومية وبإرادة سياسية قوية تعدل مسار التطور اللامتكافئ بين السواحل والتخوم لا فقط على مر عقود دولة الاستقلال ولكن على امتداد قرون ،وقد عمقت الدولة الحديثة من حيث تدري أو لا تدري هذه الفوارق..

الثورة لا تعني هذه المجموعات العنيفة والمتطرفة دينيا ولا كذلك هذا الانغلاق الفكري والمحافظة الاجتماعية التي نراها عند الكثيرين كذلك.. الثورة ليست فقط ثورة على المنظومة القانونية والدستورية السابقة بل على وضع التفاوت والتهميش وعلى وضع كبت الحريات بأصنافها وعدم فهمها بصفة متعاضدة متضامنة .

قد لا يملك الرئيس المنتخب الحلول والمفاتيح لكل أزمات البلاد ولكنه يملك رمزية تمثيل الدولة والتفويض الشعبي ليزن في اتجاه تغيير او تعديل السياسات العمومية الأكثر سوءا وتلك الممارسات الانتهازية المنتشرة في عالم السياسة وغرق قطاعات اقتصادنا وحياتنا العامة في أشكال متنوعة من الفساد الظاهر والخفي ..

لا ينبغي للرئيس المنتخب أن يعتقد أن التفويض الشعبي الواسع الذي حصل عليه سوف يجعله في مأمن من المحاسبة حتى في ما يتجاوز صلاحياته ولكنه كان جوهريا في حركة الالتفاف حول شخصه..

المعركة الحقيقية لقيس سعيد تبدأ اليوم وعليه أن يقنع من صوت له ومن لم يصوت له بان تونس ستخطو في عهده خطوات جدية نحو الإصلاحات الضرورية لتحسين حياة الناس .. أما لو بقيت الأمور تساس كما كانت تساس من قبل فلن تنفع آنذاك الخطب او إعلان النوايا ..

لقد أكل قيس سعيد خبزه الأبيض كما يقال ، فربح الانتخابات هي المعركة الأيسر أما ربح معارك إعادة تأسيس الثقة والقيام بالإصلاحات الكبرى في تناغم مع الحكومة ودفع البلاد في طريق النمو الإدماجي ، فهي المعارك الأصعب في مجتمع سئم من الانتظار ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115